القصص القرآني القسم الثالث

السيد محمد باقر الحكيم

على الساحة القرآنية الرحبة تلتقي كل الأفكار والآراء والمشاعر الخالصة لربها والمخلصة لدينها ورسالتها.. وما أجدر برسالة التقريب وهي تركز على مساحات الالتقاء أن تقف طويلا عند مائدة القرآن الكريم لتقدم الزاد الذي لا يختلف فيه جميع أبناء المذاهب الإسلامية.
الاهتمام بالدراسات القرآنية يجمع العقول والقلوب ويشدّها نحو هدف واحد سام رفيع يسمو على الصغائر والاختلافات الجانبية.. خاصة إذا كانت هذه الدراسات تنطلق من فهم معمق منفتح لأهداف رسالة القرآن في مجالاتها البناءة المعطاءة. وهذا البحث الذي نقدم حلقته الثالثة في هذا العدد نموذج لهذه الدراسات الهامة. في الحلقة الأولى والثانية تحدث الأستاذ الباحث عن الفرق بين القصص القرآني وغيره وعن أغراض القصص في القرآن الكريم وفي هذه الحلقة يطبق الأفكار والمعلومات السابقة على مفردات القصة القرآنية.

دراسة تطبيقية

بعد دراسة ظواهر القصة القرآنية يحسن بنا أن نتناول قصص الأنبياء في الجانب التطبيقي، حيث نحاول أن نطبق الأفكار والمعلومات السابقة على مفردات القصة في القرآن الكريم.
سوف نتناول هنا مثالاً واحداً للقصة وهو (قصة موسى) عليه السلام، لأن قصة موسى عليه السلام هي أكثر قصص الأنبياء ذكراً وتفصيلاً في القرآن الكريم، وهي نموذج لدراسة تفصيلية تطبيقية يمكن أن تستوعب جميع قصص الأنبياء المذكورين في القرآن الكريم.
وقد ذكرنا في المقدمة أن المنهج الذي نتبعه في هذه الدراسة التطبيقية هو التزام الخطوط الثلاثة التالية:
الأول: دراسة القصة بحسب مواضعها في القرآن الكريم.
ونأخذ النقاط التالية بعين الاعتبار في دراستنا لهذه المواضع.
أ ـ التنبيه إلى أسرار تكرار القصة الواحدة في القرآن.
ب ـ التنبيه إلى الغرض الذي سيقت لـه في كل مقام.
ج ـ التنبيه إلى أسرار تغاير الأسلوب في القصة بحسب المواضع.
الثاني: عرض الأحداث والمعلومات التي وردت في المواضع المذكورة بحسب تسلسلها التاريخي.
الثالث: دراسة تحليلية عامة للقصة من جانبين هما: المراحل التي مرّ بها موسى والموضوعات العامة التي تناولتها القصة.

القسم الأول ـ قصة موسى بحسب مواضعها في القرآن الكريم

لقد وردت قصة موسى في القرآن الكريم في نحو تسعة عشر موضعاً اختلفت من حيث الإجمال والتفصيل والإشارة، كما أشير إلى موسى عليه السلام أو التلميح بقصته في مواضع أخرى.
وسوف نتناول القصة من زاوية نحو تسعة عشر موضعاً من القرآن الكريم
ونترك المواضع الأخرى التي جاءت فيها القصة بشكل إشارات أو تلميحات.

الموضع الأول:

الآيات التي جاءت في سورة البقرة والتي تبدأ بقوله تعالى:
?وَإِذْ نَجَّيْنَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوَءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءكُمْ وَفِي ذَلِكُم بَلاء مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ _ وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ _ وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِن بَعْدِهِ وَأَنتُمْ ظَالِمُونَ ? إلى أن يختم بقوله تعالى: ?ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاء وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللّهِ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ?(1).
والملاحظ في هذا المقطع الأمور التالية:
أولا: جاء في سياق قولـه تعالى: ?يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُواْ بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ?(2).
وهي آيات تتناول مجموعة من النصائح والتوجيهات والملاحظات والاستنكار على المجتمع الإسرائيلي مع الإشارة إلى نعم الله تعالى عليهم وتفضيله لهم على العالمين.
ثانياً: إن المقطع يتناول أحداثاً معينة أنعم الله بها على بني إسرائيل مرة بعد الأخرى مع الإشارة إلى ما كان يعقب هذه النعم من انحراف في الإيمان بالله تعالى أو في الموقف العبادي الذي تفرضه طبيعة هذا الإيمان.
ثالثاً: إن القرآن الكريم بعد أن يختم هذا المقطع يأتي ليعالج المواقف الفعلية العدائية لبني إسرائيل من الدعوة، ويربط هذه المواقف بالمواقف السابقة لهم بقوله تعالى:
?أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُواْ لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ? إلى قولـه تعالى ? يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ
عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ?(1).
وعلى أساس هذه الملاحظات الثلاث يمكننا أن نقول: إن هذا المقطع جاء يستهدف غرضاً مزدوجاً، وهو:
أ ـ تذكير بني إسرائيل بنعم الله المتعددة عليهم وذلك موعظة وعبرة لهم تجاه موقفهم الفعلي.
ب ـ كشف الخصائص الاجتماعية والنفسية العامة التي يتصف بها الشعب الإسرائيلي تجاه فهم هذه المواقف، لكي لا يساور أحد من المسلمين شك فيتصور ـ خطأ ـ أن مواقف اليهود من الرسالة ناجمة عن رؤية موضوعية واقعية تجاه الرسالة الإسلامية لا عن وضعهم النفسي والاجتماعي. خاصة وأن اليهود هم أهل الكتاب في نظر عامة المسلمين. أراد القرآن هنا أن يبين أن هذا الموقف إنّما هو موقف نفسي وذاتي ومتأثر بهذه الخصائص الروحية والاجتماعية والنفسية لهذا الشعب، الأمر الذي يلقي الضوء على طبيعة الموقف السلبي الذي اتخذه اليهود تجاه الرسالة الإسلامية.
وهذا الغرض فرض «أسلوباً» معيناً على استعراض الأحداث، إذ اقتصر المقطع على ذكر الوقائع التي تلتقي مع هذا الغرض وتتناسب مع هذا الهدف. دون أن يعرض التفصيلات الأخرى للأحداث التي وقعت لموسى عليه السلام مع فرعون أو مع الإسرائيليين أنفسهم.

الموضع الثاني:

الآيات التي جاءت في سورة النساء، والتي تبدأ بقوله تعالى:
? يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَن تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِّنَ السَّمَاء فَقَدْ سَأَلُواْ مُوسَى أَكْبَرَ مِن ذَلِكَ فَقَالُواْ أَرِنَا اللّهِ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُواْ الْعِجْلَ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَن ذَلِكَ وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَانًا مُّبِينًا? إلى قولـه تعالى: ? وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا
وَقَدْ نُهُواْ عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا?(1).
والملاحظ في هذا المقطع الأمور التالية:
أولا: إنه جاء ضمن سياق عرض عام لمواقف فئات ثلاث من أعداء الدعوة الإسلامية تجاهها وهو موقف المنافقين، وموقف اليهود من أهل الكتاب، وموقف النصارى من أهل الكتاب، ويبدأ عرض الموقف الأول بقوله تعالى: ?بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا?(2).
وعرض الموقف الثاني يبدأ بقوله تعالى:?إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُواْ بَيْنَ اللّهِ وَرُسُلِهِ وَيقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُواْ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً?(3).
وعرض الموقف الثالث يبدأ بقوله تعالى:
?يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ إِلاَّ الْحَقِّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ فَآمِنُواْ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَلاَ تَقُولُواْ ثَلاَثَةٌ...?(4).
ثانياً: إن المقطع يتناول بعض الأحداث ذات الدلالة على نبوة موسى، والمواثيق الغليظة المأخوذة على اليهود بصدد الامتثال والطاعة، وموقف اليهود من ذلك والمخالفات التي ارتكبوها سواء فيما يتعلق بالجانب العقيدي من الفكرة أو بالجانب العملي التطبيقي منها.
وعلى أساس هاتين الملاحظتين يمكن أن نستنتج: أن القرآن الكريم يبدو وكأنه يريد أن يحقق غرضاً مزدوجاً، وهو توضيح حقيقتين اجتماعيتين وسنتين من السنن التي تؤثر في حركة التاريخ الإنساني:
إحداهما: أن يذكر أهل الكتاب ويفتح الطريق أمامهم ليحققوا أهدافهم الصحيحة في الدنيا والآخرة من وراء الدين والشريعة، وذلك بدعوتهم إلى الدخول في الدعوة
الجديدة ورسالة الإسلام، وأن لا يكون موقفهم منها كموقف قوم موسى حين دعاهم إلى دخول الأرض المقدسة، مع أنها كانت أمنيتهم وهدفهم، فتفوتهم ـ برفضهم دخول الدعوة الإسلامية ـ الفرصة السانحة ويصيبهم التيه الفكري والعقائدي والاجتماعي في عصر نزول الرسالة، كما أصابهم التيه السياسي والاجتماعي من قبل. وبذلك يتبين أن الوصول إلى تحقيق الأهداف الكبيرة والأماني الصالحة والمجتمع المتكامل هو باتباع الهدى والحق دون التمسك بالتعصب أو الجمود على التقاليد أو اتباع الهوى والرغبات.
والثانية: بيان أن النصر إنّما يتحقق إذا توفرت الإرادة الإنسانية القوية والشجاعة اللازمة، والتغلب على الخوف في أوساط الأمة بشكل عام. ولا يكفي وجود القيادة الرشيدة والرسالة الصحيحة والعقيدة الصالحة، فإنهما ـ وإن كانا من عناصر النصر الإلهي الأساسية ـ يستلزمان وجود الإرادة القوية للأمة.
ومن هنا نعرف السر الذي كان وراء اكتفاء القرآن الكريم بذكر هذا الموقف الخاص لبني إسرائيل دون غيره، لأنه هو الذي يحقق هذا الغرض، خصوصاً إذا عرفنا أن هذه القصة من المضامين التي يؤمن بها اليهود والنصارى معاً، وهذا الجانب من القصة لم يذكر في القرآن الكريم إلا في هذا الموضع.

الموضع الرابع:

الآيات التي جاءت في سورة الأعراف والتي تبدأ بقوله تعالى:
?ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِم مُّوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَظَلَمُواْ بِهَا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ? والتي تختم بقوله تعالى: ?وَإِذ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّواْ أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُواْ مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُواْ مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ?(1).
ونلاحظ في هذا الموضع من القصة عدة أمور:
الأول: إن القصة جاءت في عرض قصصي مشترك مع قصص نوح (59 ـ 64)، هود (65 ـ 72)، وصالح (73 ـ 79)، ولوط (80 ـ 84)، وشعيب (85 ـ 93)، تكاد أن
تتحدد فيه صيغة الدعوة والتكذيب والعقاب الذي ينزل بالمكذبين.
الثاني: إن هذا العرض القصصي العام يأتي في سياق بيان القرآن الكريم لحقيقة حشر المخلوقات وصورته، وأنهم يحشرون أمما بكاملهم، من الجن والإنس، وعلى صعيد واحد، يتلاعنون بينهم، أو يتوادون ويتحابون: ? قَالَ ادْخُلُواْ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُم مِّن الْجِنِّ وَالإِنسِ فِي النَّارِ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَّعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُواْ فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لأُولاَهُمْ رَبَّنَا هَؤُلاء أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِّنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِن لاَّ تَعْلَمُونَ?(1).
?وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لاَ نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ _ وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ وَقَالُواْ الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللّهُ لَقَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُواْ أَن تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ?(2).
ثم يعرض القرآن الكريم مشاهد متعددة عن هذا الحشر وبعض العلاقات التي تسود الناس فيه وأنه تصديق لدعوة الرسل وما بشروا به وأنذروا منه:
?وَلَقَدْ جِئْنَاهُم بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ _ هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِن قَبْلُ قَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَل لَّنَا مِن شُفَعَاء فَيَشْفَعُواْ لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ?(3).
ثم يعرض القرآن الكريم مجموعة من الحقائق الكونية والتاريخية.
الثالث: إنها جاءت في سياق قانون عام يذكره القرآن الكريم يعبر عن سنة من سنن التاريخ أشرنا إليه في حديثنا عن السنن التاريخية (الآيات 54 ـ 58) وهي سنة الابتلاء والامتحان وارتباط التغيير الكوني والحياة الإنسانية بالتغييرات الاجتماعية والسلوكية للإنسان ?وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّبِيٍّ إِلاَّ أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء لَعَلَّهُمْ
يَضَّرَّعُونَ _ ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَواْ وَّقَالُواْ قَدْ مَسَّ آبَاءنَا الضَّرَّاء وَالسَّرَّاء فَأَخَذْنَاهُم بَغْتَةً وَهُمْ لاَ يَشْعُُونَ _ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ وَلَكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ?(1).
الرابع: إن القصة على ما جاء فيها من التفصيل تبدأ في سرد الوقائع من حين بدء الدعوة دون الوقائع الأخرى التي وقعت قبل ذلك، وإنها تذكر الوقائع في حدود المجابهة التي كان يواجهها الرسول مع فرعون وملائه، (الخارجية) ومع بني إسرائيل (الداخلية) وفي إطار بيان ما ينزل بالمكذبين والمنحرفين من عذاب وعقاب وإضرار.
الخامس: إن القصة تتناول في معرض حديثها عن الحوادث جوانب من المفاهيم الإسلامية العامة والسنن التاريخية كالتأكيد على أهمية «الصبر» (128 ـ 129)، و«وراثة المتقين للأرض» (137)، وأن الرحمة الإلهية لا تنال إلا الذين اتقوا وآتوا الزكاة وآمنوا بآيات الله واتبعوا الرسول الأمي الذي يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل (156 ـ 157).

وعلى أساس هذه الملاحظات يمكن أن نستنتج:

إن القصة جاءت منسجمة مع السياق العام للعرض القصصي ومحققة لأغراضه على ما أشرنا إليه في حديثنا عن أغراض القصة ومع ذلك فإنها جاءت تستهدف عدة أغراض أخرى:
الغرض الأول: هو بيان انطباق السنن التاريخية التي أشير إليها في الملاحظة الثالثة، حيث جاءت الإشارة إلى هذه السنن بعد عرض قصص الأنبياء الآخرين.
وجاء تفصيل تصديقها ضمن قصة موسى عليه السلام لما فيها من التفصيل في تبدل الأحوال وتغيرها من خلال سنة الابتلاء وما فيها من الارتباط بين التغييرات الاجتماعية والتغييرات الكونية بجانبيها السلبي والإيجابي. فآل فرعون منعمون ولكن عندما يكذبون يبتلون بالسنين ونقص الأموال والثمرات. وبنو إسرائيل
مضطهدون مشردون مستضعفون فإذا هم يرثون الأرض، بعد ما يتعرضون لـه من تقلبات في الأحوال السياسية والاجتماعية.
الغرض الثاني: تأكيد المفاهيم الإسلامية وعلاقتها بالحقائق الاجتماعية كما مرّ في الملاحظة الخامسة.
وهنا نجد هذا الأسلوب في الربط بين المفاهيم والحقائق الدينية وبين تطورات الأحداث الاجتماعية، بحيث تصبح صورة هذه المفاهيم أكثر وضوحاً وانطباقاً مع واقع الحياة الإنسانية، ويكون ذلك عندئذ منسجماً مع الأغراض التربوية للقصة التي تسعى لتربية الإنسان المسلم على الإيمان المفاهيم من خلال تجسيدها لـه واقعياً في الحياة المعاشة.
الغرض الثالث: الربط المباشر بين أغراض القصة المتعددة العامة والهدف القرآني العام، وهو تغيير الناس الذين خاطبهم القرآن الكريم، وذلك من خلال التأكيد على نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم حتى أن القصة كأنها سيقت بتفاصيلها لتحقيق ربط هذه الدعوات والرسالات الإلهية بهذه النهاية الخاتمة لها، وأن هذه المفاهيم والسنن والأهداف التي عاشتها هذه الرسالات سوف تتحقق في نهاية المطاف في اتباع رسالة الإسلام: ?الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ...?(1).
ويؤكد ذلك هذا النداء الذي يوجهه القرآن الكريم على لسان النبي صلى الله عليه وآله إلى الناس جميعاً، حيث جاء به مسنطرداً في ثنايا القصة: ?قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ? (2).
على أن هناك شيئاً تجدر الإشارة إليه. وهو أن القرآن الكريم يهتم عادة بتفصيل قصص الرسل الذين هم من أولي العزم كنوح وإبراهيم وموسى وعيسى لأغراض متعددة ذكرناها من قبل.

الموضع الخامس:

الآيات التي جاءت في سورة يونس والتي تبدأ بقوله تعالى: ?ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِم مُّوسَى وَهَارُونَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ بِآيَاتِنَا فَاسْتَكْبَرُواْ وَكَانُواْ قَوْمًا مُّجْرِمِينَ? والتي تختم بقوله تعالى: ?وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ فَمَا اخْتَلَفُواْ حَتَّى جَاءهُمُ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ?(1).
ويلاحظ في هذا المقطع جاء بعد مقارنة عرضها القرآن الكريم بين مصير أتباع الحق والمؤمنين بالله وبالرسل والمصدقين بهم، ومصير أتباع الباطل والمفترين على الله والمكذبين بالرسل ?أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ _ الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ _ لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ?(2).
?قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ _ مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ?(3).
ثانياً: إن هذا المقطع من القصة جاء بعد إشارة قصيرة إلى نبأ نوح وقومه (71 ـ 73) يتبعها إشارة عامة إلى الرسل بعد نوح وموقف أقوامهم منهم (74).
ثالثاً: إن المقطع لا يتناول من التفاصيل إلا القدر الذي يرتبط بموقف فرعون وملائه من موسى والمصير الذي لاقاه هؤلاء نتيجة لأعراضهم عن الدعوة وتكذيبهم بها، كما انه يشير إلى إيمان فئة قليلة بموسى والتي يعبر عنها القرآن الكريم: ?فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِّن قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِّن فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَن يَفْتِنَهُمْ..?(83).
وكذلك إلى نهاية بني إسرائيل الطيبة بعد معاناتهم الطويلة في المجتمع الفرعوني.
وفي ضوء هذه الملاحظات يمكن ان نستنتج: أن القصة إنّما جاءت هنا من أجل
غرض مزدوج وهو تصديق «الحقيقة» التي ذكرها القرآن الكريم في مقارنته بين الذين آمنوا والذين يفترون على الله الكذب، والسنة التاريخية في انتصار الحق على الباطل وكذلك تصديق البشارة التي وعد الله بها أهل الحق، والإنذار بالعذاب الذي أشرنا إليه في الملاحظة الأولى.
فهي ذات غرض مزدوج رسالي وتاريخي. كما أن السياق العام هو الذي فرض مجيء قصة موسى بشيء من التفصيل دون قصة نوح أو الرسل الآخرين، لأن قصة موسى تمثل بتفاصيلها مصداق الانقسام بين جماعتين: إحداهما مؤمنة به والأخرى كافرة بدعوته، حيث يقع الصراع بينهما وينتهي بالغلبة للمؤمنين على الكافرين. بخلاف قصص الأنبياء الآخرين السابقين عليه مثل هود وصالح وشعيب فإنها تعرض في القرآن الكريم عادة على أساس أن النبي لم يؤمن به إلا النزر اليسير من الناس، ولذلك ينزل العذاب بقومه بشكل شامل عام. فهذه القصص تمثل جانبا واحدا من صدق الحقيقة، وهو جانب المصير الذي يواجهه المكذبون والمنحرفون، بخلاف قصة موسى فإنها تمثل الجانبين معا: جانب المؤمنين وجانب المكذبين.
ومن هنا يمكن أن نفسر مجيء قصة نوح في هذا الموضع مختصرة مع الإشارة العامة لموقف بقية الأنبياء.
مضافاً إلى ذلك: أن نحاً يمثل بداية الأنبياء الذين لاقى قومهم العذاب في قصص القرآن، وموسى يمثل نهايتهم وختامهم.
ويؤكد هذا التفسير لسياق القصة ما أشرنا إليه في «الملاحظة الثالثة» من أن التفاصيل التي تناولها المقطع انحصرت في بيان التزام بني إسرائيل الحق، دون أن تتعرض إلى الجوانب الأخرى لموقفهم والتي تحدث عنها القرآن في مواضع أخرى مثل الأعراف وطه والقصص، والتي تمثل الانحراف والعصيان لأوامر موسى. وهذا الالتزام يكاد يشعرنا أن القصة سيقت لابراز صدق هذه المقارنة في التاريخ الإنساني والتي كانت تتحكم في مواجهات الأنبياء.
ومن الممكن أن نلاحظ في تكرار القصة هنا ملامح السبب الخامس من أسباب
التكرار التي ذكرناها سابقاً، حيث أن طريقة عرض القصة في هذا المقطع حققت غرضاً معيناً ما كان يحصل لو عرضت قصة موسى بجميع تفاصيلها كما أشرنا آنفاً.

الموضع السادس:

الآيات التي جاءت في سورة هود، وهي قولـه تعالى:
?وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُّبِينٍ _ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاتَّبَعُواْ أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ _ يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ _ وَأُتْبِعُواْ فِي هَذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ? (96 ـ 99).
ويلاحظ في هذا المقطع القرآني من القصة ما يلي:
أولاً: إنه جاء في عرض قصصي عام وبشيء من التفصيل يبدأ بنوح عليه السلام (25 ـ 49) ثم هود (50 ـ 60) وصالح (61 ـ 68) وإبراهيم (69 ـ 76) ولوط (77 ـ 83 ) وشعيب (84 ـ 95 ) ويختم بهذه اللمحة القصيرة عن قصة موسى عليه السلام:
ثانياً: إن هذا العرض العام جاء في سياق الحديث عن مكذبي الرسول صلى الله عليه وآله والحكم الإلهي فيما يجب أن يكون الموقف العام منهم، والمصير الذي ينتظرهم في الدنيا وفي الآخرة: ?الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُم بِالآخِرَةِ كَافِرُونَ? ?أُولَئِكَ لَمْ يَكُونُواْ مُعْجِزِينَ فِي الأَرْضِ وَمَا كَانَ لَهُم مِّن دُونِ اللّهِ مِنْ أَوْلِيَاء يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ مَا كَانُواْ يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُواْ يُبْصِرُونَ ?(1).
وكذلك الإشارة إلى مصير المؤمنين وأنهم أصحاب الجنة هم فيها خالدون، مع مقارنة بين الفريقين: ?مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالأَعْمَى وَالأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ?(الآية 24).
ثالثا: إن هذا العرض يختم بما يشبه بيان الغاية منه بقوله تعالى: ?ذَلِكَ مِنْ أَنبَاء الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَآئِمٌ وَحَصِيدٌ _ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِن ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ مِن شَيْءٍ لِّمَّا جَاء أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ _ وَكَذَلِكَ
أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ? (1).
رابعاً: إن المقطع جاء لمحة عابرة عن القصة ونهايتها على خلاف قصص الأنبياء الآخرين التي جاءت في شيء من التفصيل.
ومن هنا يمكن أن نستنتج أن الإتيان بهذا المقطع من القصة كان من أجل توضيح حتمية العدل الإلهي التي تفرض معاقبة الظالمين والمنحرفين، لان هذا هو معنى عدم الاستواء، وقد أكده القرآن الكريم في مواضع أخرى منها قولـه تعالى:
?أَفَمَن كَانَ مُؤْمِنًا كَمَن كَانَ فَاسِقًا لَّا يَسْتَوُونَ? (2). حيث جاء في سياق قولـه: ?.. وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ?(3). مع بيان قدرة الله تعالى على تنفيذ وإجراء هذا الحكم العادل في الدنيا كقدرته على ذلك في الآخرة: ?أُولَئِكَ لَمْ يَكُونُواْ مُعْجِزِينَ فِي الأَرْضِ?.
وقد أراد القرآن الكريم أن يوضح الصورة لهذه الحتمية الإلهية من خلال القصة، فبدأها بنوح وختمها بموسى ليظهر بذلك الارتباط الوثيق بين أسلوب الأنبياء في الدعوة إلى الله وجهودهم في سبيل هذه الغاية، وإقامتهم للحجة على أقوامهم، والمواجهة التي كانوا يلقونها من أممهم، وأن النتيجة الحاسمة التي كان ينتهي إليها مصير هذه الأمم بسبب تكذيبهم من العذاب الشديد والعقاب القاسي هي تحقيق هذا الحكم الإلهي.
وبهذا نعرف السبب في التوسع النسبي في الحديث عن الأنبياء السابقين على موسى عليه السلام لأن العذاب لحق أقوامهم بشكل عام دون استثناء. وأما موسى عليه السلام فإن العذاب لحق فرعون المكذب وحده بخلاف بني إسرائيل المؤمنين، ولذا جاء الحديث مختصراً.
وهنا نلاحظ أن العرض من حيث التفصيل والاختصار في هذه السورة جاء على عكس العرض في سورة يونس والسبب هو اختلاف الغرض.

الموضع السابع:

الآيات التي جاءت في سورة إبراهيم وهي قولـه تعالى.
? وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللّهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ_ وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنجَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءكُمْ وَفِي ذَلِكُم بَلاء مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ _ وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ _ وَقَالَ مُوسَى إِن تَكْفُرُواْ أَنتُمْ وَمَن فِي الأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ?(1).
ويلاحظ في هذا المقطع القرآني من القصة مايلي:
أولا: إن القرآن الكريم قد مهد لهذه الإشارة بقوله: ? وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللّهُ مَن يَشَاء وَيَهْدِي مَن يَشَاء وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ?.
ثانياً ـ إن القرآن يتحدث بعد هذا المقطع من القصة عن المفاهيم العامة التي كان يطرحها الرسل، والأساليب التي كانوا يسلكونها لتحقيق أغراضهم الرسالية، دون الحديث عن أنبياء آخرين.
ثالثاً ـ إن الحديث عن القصة في المقطع جاء بشكل مختصر وقد أكد على المشكلة العامة التي كان يعانيها الإسرائيليون، والنعمة العامة التي تفضل بها عليهم، والدعوة لشكر النعمة وأن الله لا يضره كفرانها.
ومن هنا يمكن أن نستنتج أن المقطع قصد به التمثيل على صدق الحقيقة التي أشار إليها القرآن الكريم من مجيء كل رسول بلسان قومه، فقد يراد بلسان القوم اللغة التي يتكلم بها القوم، وقد يراد شيء آخر أيضاً وهو تصدي الرسالة لطرح القضايا والمشاكل الاجتماعية والسياسية والإنسانية المثيرة التي تستقطب اهتمام الأمة ونظرتها ومشاعرها، فيكون التأكيد عليها أسلوبا ولساناً لاستقطاب نظر الأمة إلى الدعوة وقيمتها الروحية والاجتماعية، ولذا جاءت قصة موسى مثالاً لهذه الحقيقة، لأنه دعا لإنقاذ قومه من مشكلة اجتماعية عامة كانوا يعانونها.
ولما كانت الغاية الحقيقية من إرسال الرسل هو هداية الناس وإرشادهم، فإننا نجد القرآن الكريم بعد هذه الإشارة إلى قصة موسى وتصديق الحقيقة السابقة يعود فيتحدث عن المفاهيم العامة التي كان يطرحها الرسل، باعتبارها هي غاية دعوة الأنبياء على اختلاف بينهم في أسلوب تحقيق هذه الغاية.

الموضع الثامن:

الآيات التي جاءت في سورة الإسراء وهي قولـه تعالى: ?وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَاسْأَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَاءهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَونُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا _ قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَؤُلاء إِلاَّ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَآئِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَونُ مَثْبُورًا _ فَأَرَادَ أَن يَسْتَفِزَّهُم مِّنَ الأَرْضِ فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَن مَّعَهُ جَمِيعًا _ وَقُلْنَا مِن بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُواْ الأَرْضَ فَإِذَا جَاء وَعْدُ الآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا?(1).
ويلاحظ في هذا المقطع القرآني من القصة مايلي:
أولاً ـ إنه جاء في سياق المطاليب التعجيزية المتعددة التي يقترحها المشركون والكفار على الرسول صلى الله عليه وآله وعدم اكتفائهم بالقرآن الكريم دليلاً ومعجزة على النبوة: ?وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُورًا _ وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنبُوعًا _ أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأَنْهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيرًا _ أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاء كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللّهِ وَالْمَلآئِكَةِ قَبِيلاً?(2).
ثانياً ـ إن القرآن يناقش هذه المطاليب التعجيزية ويؤكد أن السبب المانع من الهداية هو الحاجز النفسي الذاتي المعبر عنه بـ«الأنا» ?وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَن يُؤْمِنُواْ إِذْ جَاءهُمُ الْهُدَى إِلاَّ أَن قَالُواْ أَبَعَثَ اللّهُ بَشَرًا رَّسُولاً? (3).
مع أن مقتضى منطق الأشياء وطبيعة الحال أن يكون الرسول بشراً لا ملكاً، ولو كان سكان الأرض ملائكة يكونون مجتمعاً ملائكياً لبعث إليهم ملكاً رسولا: ?قُل لَّوْ كَانَ فِي الأَرْضِ مَلآئِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مِّنَ السَّمَاء مَلَكًا رَّسُولاً?(4).
ثالثاً ـ إن القرآن الكريم يعقب على القصة بالحديث عن القرآن ـ أيضاً ـ بقوله: ?وَبِالْحَقِّ أَنزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا? (1).
رابعا: إن القرآن لا يشير في هذا المقطع من القصة إلا إلى الآيات التسع التي جاء بها موسى ورفض فرعون لدعوته ومصيره نتيجة لهذا الرفض.

ويمكن أن نستنتج من هذه الملاحظات:

أن القصة إنّما جاءت هنا شاهدا على حقيقة يذكرها القرآن وهي: إن مطاليب الكفار المشركين لم تكن بسبب حاجة موضوعية أو من أجل معرفة حقيقة القرآن وصدق النبوة، وإنّما هو أسلوب عام يتذرع به الكفار للتمادي في الضلال والإصرار عليه. فهي أشبه بالمطالب التعجيزية منها بالمطالب المعقولة والشاهد على ذلك قصة موسى عليه السلام، حيث جاء موسى بتسع آيات إلى فرعون وقومه، ومع ذلك فقد كان موقف فرعون منها موقف المكذبين ولم تنفع معه هذه الآيات، بالرغم من أن هذه الآيات التسع جاءت في أزمنة متعددة. ولسبب هو هذا الحاجز النفسي الذي تحدث عنه القرآن.
فالسياق هو الذي فرض الإتيان بهذا القدر من قصة موسى عليه السلام للاستشهاد بها على هذه الحقيقة. وهذا شيء تفرضه طبيعة الواقع التاريخي لرسالة موسى الذي أرسله الله سبحانه بالآيات التسع دون غيره من الأنبياء.
كما أن التكرار كان بسبب تأكيد مفهومين:
الأول : إن طلبات الكفار وتمنياتهم ليست نتيجة لواقع نفسي يدعوهم إلى الشك بالرسالة ويفرض عليهم التأكد من صحتها. ولا يكون عدم إتيان الرسول بمطاليبهم حينئذ بسبب فقدان صلته بالسماء وإنما بسبب كفاية القرآن الكريم لإقامة الحجة عليهم، كلما دلت الآية الكريمة بعد القصة على ذلك.
الثاني: إن مصير هؤلاء المكذبين كمصير فرعون من الهلاك والهزيمة، وإن أتباع النبي يصيرون إلى ما صار إليه بنو إسرائيل من وراثة الأرض.

پاورقيها:

1 ـ 105.
1 ـ 75 ـ 122.
1 ـ 94 ـ 101.
1 ـ إبراهيم: 5 ـ 8.
1 ـ الإسراء: 101 ـ 104.
1 ـ الأعراف: 103 ـ 171.
1 ـ الأعراف: 157.
1 ـ الأعراف: 38.
1 ـ البقرة: 49 ـ 74.
1 ـ النساء: 153 ـ 161.
1 ـ سورة هود الآيات 19 ـ 20.
1 ـ هود 100 ـ 102.
1 ـ يونس: 75 ـ 93.
2 ـ 40 ـ 48.
2 ـ 62 ـ 64.
2 ـ 89 ـ 92.
2 ـ الأعراف: 158.
2 ـ الأعراف: 42 ـ 43.
2 ـ السجدة: 18.
2 ـ النساء: 138.
3 ـ 52 ـ 53.
3 ـ 69 ـ 70.
3 ـ 94.
3 ـ السجدة: 13.
3 ـ النساء: 150.
4 ـ 95.
4 ـ النساء: 171.