كان
(صلى الله عليه وآله وسلم)
يقسِّم لحظاته بين أصحابه فينظر الى ذا وينظر الى ذا بالسوية .
ولم يبسط رسول الله
(صلى الله عليه وآله وسلم)
رجليه بين أصحابه قط .
وإن كان ليصافحه الرجل فما يترك رسول الله
(صلى الله عليه وآله وسلم)
يده من يده حتى يكون هو التارك .
وقد فاجئه أحد المشركين يوماً وشدَّ عليه بالسيف ثم قال له : من ينجيك مني يا محمد ؟
فقال النبي
(صلى الله عليه وآله وسلم)
ربي وربك ، فجاء جبرئيل فطرحه على الارض وقام النبي
(صلى الله عليه وآله وسلم)
وأخذ السيف وجلس على صدره وقال : من ينجيك مني ؟
فقال المشرك : جودك وكرمك ، فتركه وذهب .
الرفق بالحيوان : ولما سار رسول الله
(صلى الله عليه وآله وسلم)
من المدينة الى مكة في عام الفتح نظر في منتصف الطريق كلبة تهرّ على أولادها وهم حولها يرضعونها فأمر النبي
(صلى الله عليه وآله وسلم)
رجلاً من أصحابه يقال له جُعيل بن سراقة أن يقوم عندها لا يتعرض لها أحدٌ من الجيش ولاولادها .
الى هذا الحد كانت رأفة ورحمة نبينا العظيم والى هذا المستوى الرفيع يدعو الاسلام البشرية جمعاء نحو الرفق بالحيوان فهذا غيظ من فيض ونذر يسير جداً من صور إنسانية شامخة جسَّدها رسولنا الكريم لنا فيها اُسوة ولنا فيه قدوة . . . فما أعظمه من بشر وما أكرمه من نبي كريم .
من معاجز النبي (صلى الله عليه وآل
ه و سلم)
كان المسلمون قد اصابتهم مجاعةٌ شديدة في أيّام حفر الخندق فأرسلت عمرة بنت رواحة ابنتها بجفنة تمر الى زوجها .
فجاءت الفتاة تبحث عن والدها بين المسلمين فرآها رسول الله
(صلى الله عليه وآله وسلم)
فقال لها : ما هذا معك ؟
قالت : بعثتني اُمّي الى أبي وخالي بغدائهما .
فقال رسول الله
(صلى الله عليه وآله وسلم)
هاتيه ، فأخذه منها ثم نثره على ثوب وقال لاحد الرجال : نادِ بأهل الخندق أن هلمَّ الى الغداء فاجتمع المسلمون عليه يأكلون منه حتى شبعوا كلهم وإنّه ليفيض من أطراف الثوب .
دعى جابر الانصاري يوماً رسول الله
(صلى الله عليه وآله وسلم)
الى بيته وكان عنده شيء من الشعير فأمر زوجته أن تطحنه وتخبزه وكان عنده شاة فذبحها وطبخها ثم قال لرسول الله
(صلى الله عليه وآله وسلم)
يا رسول الله قد صنعت لك طعاماً فأت أنت ومن أحببت من أصحابك فقام رسول الله
(صلى الله عليه وآله وسلم)
وقال : أجيبوا جابرٌ يدعوكم فأقبلوا معه وهم فِرقاً فِرقاً ، فقال جابر في نفسه : آنهالفضيحة فجاء الى زوجته وأخبرها بالامر فقالت : أنت دعوتهم أو هو دعاهم ؟
فقال : بل هو دعاهم فقالت : دعهم هو أعلم فأقبلوا كلهم الى بيت جابر وكانوا يدخلون عشرةً عشرةً ثم قال النبي
(صلى الله عليه وآله وسلم)
أغرفوا وغطوا البُرمة وأخرجوا من التنور الخبز ثم غطوه .
ففعلوا ما قاله لهم النبي
(صلى الله عليه وآله وسلم)
فكانوا يفتحون البرمة واذا الطعام على حاله وكلما غرفوا منه عاد كما كان وهكذا التنور لم يكن ينقص منه شيء ، فأكلوا وشبعوا وبقي الطعام على حاله .
حينما رأى رسول الله
(صلى الله عليه وآله وسلم)
ما بالمسلمين من الارهاق والتعب يوم حفر الخندق قال لهم : إنّي لارجو أن أطوف بالبيت العتيق وآخذ المفتاح وليُهلكنَّ الله كسرى وقيصر ولتنفقنَّ أموالهم في سبيل الله وقد تحقق ذلك فعلاً .
ومن معاجزه انه
(صلى الله عليه وآله وسلم)
نُصر بالريح وهي تحمل معها الرعب وكان
(صلى الله عليه وآله وسلم)
يقول : نصرت بالصبا وأهلكت عادٌ بالدبور .
ومن معاجزه انه
(صلى الله عليه وآله وسلم)
أخبر أبا سفيان بكتاب بعثه اليه بعد حرب الخندق انه
(صلى الله عليه وآله وسلم)
سوف ينتصر عليه ويكسر اللات والعزى وهبل وقد تحقق ذلك عام الفتح .
ومن معاجزه المشهورة : خروج الماء من أصابعه الشريفة ، وشفاء أمير المؤمنين
(عليه السلام)
من الرمد ببصاق فمه المباركة ، وإنشقاق القمر وتحول الشجرة من مكان الى آخر ، وما كان له
(صلى الله عليه وآله وسلم)
ظل على الارض ، وكان يرى من خلفه كما يرى من أمامه وتنام عينيه ولا ينام قلبه فهو
(صلى الله عليه وآله وسلم)
يسمع ويعي في نومه ما يسمع ويعي في يقظته وبالجملة فمعاجزه كثيرة جداً .
حجة الوداع
حجّ رسول الله مكة وكانت آخر حجة في حياته بعد أن أمضى مجاهداً صابراً محتسباً ، قد أفنى كل قوته وعمره من أجل تثبيت التوحيد في الارض وازال كل مظاهر الوثنية في الجزيرة وغيرها ، وقد أحسّ النبي
(صلى الله عليه وآله وسلم)
بدنو وقت رحيله الى الرفيق الاعلى عندما هبط عليه جبرئيل وأخبره بضرورة اعلان وتعيين الوصي الذي يقوم مقامك كقائد روحي وسياسي يدير المسلمين وينشر الشريعة
(يا ايها الرسول بلّغ ما اُنزل إليك من ربّك)
فكان الامام علي
(عليه السلام)
هو المرشح من قبل الله تعالى لهذا المنصب وفي عودته من الحج في منطقة تسمى بـ « غدير خم ” وكانت مفترق الطرق بالنسبة للمسلمين فأمر النبي
(صلى الله عليه وآله وسلم)
المسلمين بالتجمع وكانوا أكثر من مائة ألف شخص وضعوا له منبراً من أمتعتهم فصعده وقال :
« ألا من كنتُ مولاه فهذا عليٌ مولاه ، اَللّهُمَّ والِ من والاه وعادي من عاداه وانصر من نصره واخذل من خذله »
فطلب النبي
(صلى الله عليه وآله وسلم)
من المسلمين أن يبايعوا عليّاً على السمع والطاعة فأوّل من بايعه عمر بن الخطاب وأبو بكر .
وقد حذَّر النبي
(صلى الله عليه وآله وسلم)
الاُمّة الاسلامية من مغبة الانحراف عن خط عليّ بن ابي طالب
(عليه السلام)
لانّه راية الهدى « وما محمد إلاّ رسول قد خلت من قبله الرسل افإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضرّ الله شيئاً » .
اجعة الخميس
لقد توفي النبي
(صلى الله عليه وآله وسلم)
بعد أن مرض مرضاً ألمَّ به ، ولكنه ادرك انّ بعض رجال الاُمّة سوف يغدر بالوصي ويتآمر عليه فحاول النبي أن يتخذ اجراء معين للحيلولة دون وقوع هذا الانحراف :
1
ـ أمر المسلمين بالالتحاق في جيش اسامة لمحاربة الروم ولعن كل من تخلف عنه ، وأمر عليّاً
(عليه السلام)
بعدم الالتحاق بهذا الجيش ولكن لم يلتحق به أكثر الرجال الذين تآمروا على منصب القيادة.
2
ـ طلب النبي
(صلى الله عليه وآله وسلم)
من الجالسين عنده أن يأتوه بورقة وقلم لكي يكتب لهم كتاباً لن يضلوا من بعده. فمنع بعض الصحابة ذلك وقال عمر بن الخطاب انّ النبي أخذه الوجع أي انه لا يدري ما يقول ، والعياذ بالله .
وهكذا مات رسول الله بخسارته ونقمته على بعض الرجال الذين أسرعوا الى احتلال الخلافة والقيادة وتركوا جثمان النبي ملقى فقام عليّ
(عليه السلام)
وغسّله وكفّنه ودفنه بعد أن صلّى عليه .
متابعة الموضوع في الصفحة العقائدية
تدبير النّبي لمنع الخلاف
فتنة
« بعث جيش اُسامة »
الملل والنحل : الخلاف الثاني في مرضه ، انه قال : جهّزو جيش اسامة ، لعن الله من تخلف عنها ، فقال قوم : يجب علينا امتثال امره ، واسامة قد برز من المدينة ، وقال قوم : قد اشتد مرض النبي عليه السلام فلا تسع قلوبنا لمفارقته والحالة هذه ، فنصبر حتى نبصر أي شيء يكون من أمره
(1)
.
أقول : قال الله تعالى ـ وما ينطق عن الهوى ان هو الا وحي يوحى . وقال تعالى ـ قل ما كنت بدعا من الرسل وما أدري ما يُفعل بي ولا بكم ان اتبع الا ما يوحى اليّ . فمخالفته قولا أو عملا تكشف عن ضعف الايمان بل عن النفاق ، ولا سيما مع هذا التأكيد الأكيد واللعن الصريح على المخالفة . ولا يبعد أن يكون هذا التجهيز المأمور به من جانب الله تعالى في هذا الموقع المخصوص لأميرين أو لأمور مهمة .
منها ـ أن يتوجه المهاجرون والأنصار في آخر ساعة من حياة النبي « ص » إلا أن الخلافة والإمارة الإلهية لا ربط لها بالعناوين الظاهرية ، من المال والمقام والكهولة ، وقد أمّر أسامة بن زيد وهو ابن عشرين سنة على جميع المهاجرين والأنصار ، ومنهم أبو بكر وعمر وأبو عبيدة .
ومنها ـ أن يخرج رؤوس المهاجرين والأنصار من المدينة حين وفاة النبي « ص » ، حتى يمكن اجراء نظره واعمال وصيته في علي اميرالمؤمنين ، حبيب الله وحبيب رسوله ، ولكن تدبير المخالفين في هذه المرتبة الثانية أيضا قد منع عما يريده رسول الله « ص » من اجراء نيته .
تهذيب ابن عساكر : فقال رجال من المهاجرين ، وكان اشدهم في ذلك قولا عياش بن أبي ربيعة : يستعمل هذا الغلام على المهاجرين الأولين ، فكثرت القالة في ذلك فسمع عمر بن الخطاب بعض ذلك القول فرده على من تكلم به ، وجاء الى رسول الله « ص » فأخبره بقول من قال ، فغضب رسول الله « ص » غضبا شديدا فخرج وقد عصب رأسه بعصابة وعليه قطيفة ، ثم صعد المنبر فحمد الله واثنى عليه ثم قال : أما بعد ، أيها الناس فما مقالة بلغتني عن بعضكم في تأميري اسامة ، فو الله لئن طعنتم في إمارتي اسامة لقد طعنتم في امارتي أباه من قبله ، وأيم الله ان كان للامارة لخليق وان ابنه من بعده لخليق بالإمارة ، وإن كان لأحب الناس اليّ ، وان هذا لمن أحب الناس اليّ ، وإنهما لمُخبآن لكل خير ، فاستوصوا به خيرا فإنه من خياركم ، ثم نزل رسول الله « ص » ، فدخل بيته وذلك يوم السبت ... وجاء المسلمون الذين سيخرجون مع اسامة يودعون رسول الله « ص » وفيهم عمر بن الخطاب ، ورسول الله « ص » يقول : أنفذوا بعث أسامة
(2)
.
أقول : اللهم العن من تخلف عن جيش اسامة كما لعنهم رسول الله « ص » ، اللهم إنا نتبرّأ ممن اعترضوا على رسول الله « ص » وأغضبوه ، وطعنوا في تأميره وخالفوا أمره ، ولم يطيعوه ولم يسلموا إليه ولم يتجهّزوا ولم يسرعوا السير في حياته .
البخاري ومسلم : باسناده عن ابن عمر : بعث رسول الله « ص » بعثا وأمّر عليهم اسامة بن زيد ، فطعن الناس في إمرته فقام رسول الله « ص » فقال : ان تطعنوا في إمرته فقد كنتم تطعنون في إمرة أبيه من قبل ، وأيم الله ان كان لخليقا للإمرة ، وإن كان لمن أحب الناس الي ، وإن هذا لمن أحب الناس اليّ بعده
(3)
.
ويروى مسلم ايضا : قريبا منها بسند آخر ، وفيها : فاوصيكم به فإنه من صالحيكم .
ويروى مسند أحمد : قريبا منها
(4)
.
الطبقات : فلما أصبح يوم الخميس عقد لاسامة لواءا بيده ، ثم قال : اُغزُ بسم الله وفي سبيل الله فقاتِل من كفر بالله ! فخرج بلوائه معقودا فدفعه الى بُريدة أبن الحُصيب الأسلمي وعسكر بالجُرف ، فلم يبق أحد من وجوه المهاجرين الأولين والأنصار الا انتُدِب في تلك الغزوة ، فيهم ابوبكر الصديق وعمر بن الخطاب وابو عبيدة بن الجراح وسعد بن أبي وقاص ... فتكلم قوم وقالوا يستعمل هذا الغلام على المهاجرين الأولين ، فغضب رسول الله « ص » غضبا شديدا فخرج وقد عصب على رأسه عصابة وعليه قطيفة ، فصعد المنبر ...
ثم نزل فدخل بيته ، وذلك يوم السبت لعشر خلون من ربيع الأول ، وجاء المسلمون الذين يخرجون مع اسامة يودّعون رسول الله « ص » ويمضون الى العسكر بالجُرف ، وثقل رسول الله « ص » فجعل يقول : أنفذوا بعث اسامة ، فلما كان يوم الأحد اشتد برسول الله « ص » وجعه ، فدخل اسامة من معسكره والنبي مغمور ، وهو اليوم الذي لدّوه فيه ، فطأطأ اسامة فقبله ورسول الله « ص » لا يتكلم فجعل يرفع يديه الى السماء ثم يضعهما على اسامة ، قال : فعرفت انه يدعو لي ، ورجع اسامة الى معسكره ، ثم دخل يوم الأثنين وأصبح رسول الله « ص » مفيقا صلوات الله عليه وبركاته ، فقال له : اغد على بركة الله فودّعه اسامة وخرج الى معسكره فأمر الناس بالرحيل ، فبينا هو يريد الركوب اذا رسول الله امه ـ أم ايمن قد جاءه يقول : ان رسول الله « ص » يموت !
فأقبل واقبل معه ابو عبيدة فانتهوا الى رسول الله « ص » وهو يموت فتوفى « ص » حين زاغت الشمس يوم الاثنين لا ثنتي عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأول ، ودخل المسلمون الذين عسكروا بالجُرف الى المدينة ... الخ
(5)
.
ويروى أيضا : إن النبي « ص » بعث سرية فيهم ابو بكر وعمر واستعمل عليهم اسامة بن زيد ، فكان الناس طعنوا فيه أي في صغره ... الخ
(6)
.
ويروى أيضا : ثم قال : أيها الناس أنفذوا بعث اسامة فلعمري ان قلتم في إمارته لقد قلتم في إمارة أبيه من قبله ، وإنه لخليق للإمارة وان كان أبوه لخليقا لها ، قال : فخرج جيش اسامة حتى عسكروا بالجُرف وتتام الناس إليه فخرجوا ... الخ
(7)
.
أقول : الجُرف بالضم على ثلاثة اميال من المدينة نحو الشام . ولدّ الدواء : صبّه في أحد شقّي الفم .
ويروى أيضا : فخطب أبو بكر اناس فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : والله لأن تخطفني الطير أحب اليّ من أن ابدأ بشيء قبل أمر رسول الله « ص » ، قال : فبعثه أبو بكر الى آبل واستأذن لعمر أن يتركه عنده ، قال : فأذن اسامة لعمر ... الخ
(8)
.
انساب الأشراف : وكان رسول الله « ص » قد رأى توجيه اسامة بن زيد في سرية الى الذين حاربهم أبوه يوم مؤتة وأمره أن يوطئهم الخيل ، وعقد له لواء وضم اليه ابابكر وعمر فيمن ضم ، فمرض « ص » قبل أن ينفذ الجيش ، فأوصى بانفاذه فقال : أنفذوا جيش اسامة فلما استخلف أبوبكر أنفذه ، وكلّمه في عمر لحاجته إليه
(9)
.
أقول : إن كان مراده من قوله « فأوصى بانفاذه » الوصية بالانفاذ بعد رحلته وموته : فهذا خلاف ما ثبت ونقل في الكتب المعتبرة بل وغير المعتبرة أيضا ، وقد مر في الطبقات قوله : وأصبح رسول الله « ص » مفيقا فقال له : اُغدُ على بركة الله فودّعه اسامة وخرج الى معسكره فأمر الناس بالرحيل . وان كان مراده من الوصية : الأمر بالأنفاذ وحركة الجيش بالفور ومن غير تأخير ، وهو الصريح من التاريخ والرواية : فكيف يجوز للجيش التهاون والتراخي والتسامح ومخافة امر الرسول ، مع أنه لا ينطق عن الهوى ولا يجوز مخالفته وعصيانه .
ويروى أيضا : عن ابن عباس خرج رسول الله « ص » عاصبا رأسه حتى جلس على المنبر ، وكان الناس قد تكلموا في أمره حين أراد توجيههم الى مُؤتة ، فكان أشدهم قولا في ذلك عياش بن أبي ربيعة ، فقال : أيها الناس أنفذوا بعث أسامة ، فلعمري لئن قلتم في إمرته لقد قلتم في إمرة أبيه من قبله ولقد كان أبوه للإمارة خليقا ، وإنه لخليق بها . وكان في جيش اسامة أبو بكر وعمر ووجوده من المهاجرين والأنصار « رض » وخرج فعسكر بالجُرف . فلما قبض رسول الله « ص » واستخلف ابو بكر ، أتى أسامة فقال له : قد ترى موضعي من خلافة رسول الله « ص » وأنا الى حضور عمر ورأيه محتاج ، فأنا أسألك تخليفه ! ففعل
(10)
.
تهذيب ابن عساكر : فشقّ ذلك على كبار المهاجرين الأولين ودخل على ابي بكر عمر وعثمان وأبو عبيدة وسعد بن أبي وقاص وسعيد بن زيد ، فقالوا : يا خليفة رسول الله ان العرب قد انتقضت عليك من كل جانب وأنك لا تصنع بتفريق هذا الجيش المنتشر شيئا ، اجعلهم عدة لأهل الردة ترمي بهم في نحورهم ، واخرى لا تأمن على أهل المدينة أن يغار عليها وفيها الذراري والنساء ، ولو تأخرت لغزو الروم ... فقال : والذي نفسي بيده لو ظننت أن السباع تأكلني بالمدينة لأنفذت هذا البعث ، ولا بد أن يؤوب منه ، كيف ورسول الله « ص » ينزل عليه الوحي من السماء يقول : أنفذوا جيش أسامة ، ولكن خصلة أكلّم بها أسامة ، أكلمه في عمر يقيم عندنا فإنه لا غنى بنا عنه والله ما أدري يفعل أسامة أم لا
(11)
.
أقول : والعجب من قول أبي بكر حيث يعترف بأن رسول الله « ص » ينزل عليه الوحي من السماء ، ومع هذا تخلف عن الجيش في زمان حياة رسول الله « ص » ثم يكلم في عمر ايضا حتى يقوم عنده ويتخلف عن الجيش ، وقال الله تعالى ـ اطيعوا الله ورسوله ولا تولوا عنه وأنتم تسمعون . ويقول ـ ومن يُطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيما . ويقول ـ وان تُطيعوه تهتدوا وما على الرسول إلا البلاغ المبين . ويقول ـ ومن يُطع الرسول فقد ويقول ـ أن اتبع الا ما يوحى اليّ وما أنا إلا نذير مبين . ويقول ـ قل ما يكون لي أن ابدّله من تِلقاء نفسي أن أتبع الا ما يوحى اليّ إني أخاف ان عصيت ربي عذاب يوم عظيم . فياللعجب ان رسول الله « ص » يخاف من العذاب الشديد اذا عصى الوحي ، فكيف ابوبكر وعمر وابوعبيدة وآخرون من المهاجرين ، لم يخافوا في خلافهم وعصيانهم وتساهلهم في الوظيفة المعينة والعمل المتعين المأمور به من الله ورسوله ! وكيف رضوا بالتألم الشديد والايذاء لرسول الله « ص » في آخر ايام من حياته !
يقول في امتاع الأسماع : وعقد يوم الخميس لأسامة لواءا بيده وقال : يا اسامة اغزُ بسم الله وفي سبيل الله فقاتلوا من كفر بالله ، اغزوا ولا تعذروا ، ولا تقتلوا وليدا ولا امرأة ولا تمنّوا لقاء العدو ... فخرج اسامة فدفع لواءه الى بُريدة بن الحُصيب ، فخرج به الى بيت اسامة وعسكر بالجُرف ، وخرج الناس ولم يبق أحد من المهاجرين الأولين الا انتُدِب في تلك الغزوة ، كعمر بن الخطاب وأبي عبيدة وسعد بن أبي وقاص وأبي الأعور سعيد بن زيد ، في رجال آخرين ، ومن الأنصار عدة مثل قتادة بن النعمان وسلمة بن اسلم ، فقال رجال من المهاجرين وكان أشدهم في ذلك قولا عياش بن أبي ربيعة ... ثم نزل « ص » فدخل بيته ، وذلك يوم السبت ... الرواية
(12)
.
فتنة
« قول عمر أن رسول الله « ص » مامات »
الملل والنحل : الخلاف الثالث في موته عليه السلام ، قال عمر بن الخطاب : من قال أن محمدا مات ؛ قتلته بسيفي هذا ، وإنما رُفع الى السماء كما رفع عيسى بن مريم عليه السلام ، وقال أبوبكر بن قحافة : من كان يعب محمدا فإن محمدا قد مات ومن يعبد إله محمد فإنه حي لا يموت ، وقرأ هذه الآية : وما محمد الا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم 3|144 فرجع القوم الى قوله ، وقال عمر : كإني ما سمعت هذه الآية حتى قرأها أبوبكر
(13)
.
أقول : هذه فتنة اخرى ثالثة ، ظهرت حين رحلة رسول الله « ص » ، وهل كان هذا القول تدبيرا آخر حتى يصرف الناس عن التوجه الى موته ، والإقبال الى أهل بيته الى أن يتعين الخليفة ؟ او كان منشأه الاشتباه والجهالة بموت النبي « ص » ؟
والظاهر أنه مستند الى علل اخرى ، فإن الحكم بأن عمر كان غافلا وجاهلا بهذا الموضوع في غاية البعد . واعجب منه قوله : من قال ان محمدا مات قتلته بسيفي هذا . مسند أحمد : عن انس ، فقام عمر فقال : ان رسول الله لم يمت ولكن ربه أرسل إليه كما أرسل إلى موسى ، فمكث عن قومه اربعين ليلة ، والله إني لأرجو أن يعيش رسول الله « ص » حتى يقطع أيدي رجال من المنافقين وألسنتهم يزعمون ان رسول الله « ص » قد مات
(14)
.
تاريخ الطبري والسيرة النبوية : لما توفي رسول الله « ص » قام عمر بن الخطاب فقال : ان رجالا من المنافقين يزعمون ان رسول الله « ص » قد توفى ، وان رسول الله « ص » مامات ولكنه ذهب الى ربه كما ذهب موسى بن عمران ، فقد غاب عن قومه اربعين ليلة ثم رجع اليهم بعد ان قيل قد مات ، ووالله ليرجعن رسول الله « ص » كما رجع موسى ، فليقطعن أيدي رجال وأرجلهم زعموا ان رسول الله « ص » مات ، قال وأقبل ابوبكر حتى نزل على باب المسجد حين بلغه الخبر ... قال عمر : والله ما هو الا ان سمعت أبا بكر تلاها ، فعُقرت حتى وقعت الى الأرض ما تحملني رجلاي وعرفت أن رسول الله « ص » قد مات
(15)
.
ويقول في السيرة : عن ابن عباس : والله إني لأمشي مع عمر في خلافته ... فقال يا ابن عباس هل تدري ما كان حملني على مقالتي التي قلت حين توفي رسول الله « ص » ؟ قال : قلت : لا أدري يا أميرالمؤمنين أنت أعلم ! قال : فإنه والله إن كان الذي حملني على ذلك الا اني كنت أقرأ هذه الآية « وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا » فوالله ان كنت لأظن ان رسول الله « ص » سيبقى في امته حتى يشهد عليها بآخر اعمالها
(16)
.
أقول : هذا الاعتذر أسوء وأقبح من الخطأ الأول لأنه يلزم أيضا على هذا التفسير : طول بقاء الأمة حتى يكونوا شهداء على الناس ، بل يجب كونهم موجودين من اول القرون الى آخرها ، مع أن الخطاب في قوله تعالى « عليكم » لا يختص بالمشافهين الموجودين ، بل يعم جميع المسلمين الى يوم القيامة . والمراد من الشهادة الإحاطة والتوجه الرواحاني لا الجسماني .
سنن الدارمي : فقام عمر فقال : ان رسول الله « ص » لم يمت ولكن عرج بروحه كما عرج بروح موسى ، والله لا يموت رسول الله « ص » حتى يقطع أيدي أقوام وألسنتهم ، فلم يزل عمر يتكلم حتى أزبَد شِدقاه بما يوعد ويقول ، فقام العباس فقال : أن رسول الله « ص » قد مات وأنه لبشر وإنه يأسن كما يأسن البشر ، أي قوم فادفنوا صاحبكم فإنه اكرم على الله من ان يُميته إماتتين ! أيُميت أحدكم أماته ويُميته اماتتين ! وهو أكرم على الله من ذلك ، أي قوم فادفنوا صاحبكم ، فإن يك كما تقولون فليس بعزيز على الله أن يبحث التراب ... الخ
(17)
.
أقول : يعلم من ذلكأن من قام وخطب بعد عمر هو العباس لا أبوبكر . الطبقات : ويروى قريبا من الدارمي
(18)
.
ويروى أيضا : عن عائشة لما توفي رسول الله « ص » استأذن عمر والمغيرة بن شعبة فدخلا عليه فكشفا الثوبعن وجهه ، فقال عمر : واغشيا ما أشد غشي رسول الله « ص » ، ثم قاما فلما انتهيا الى الباب قال المغيرة : يا عمر مات والله رسول الله « ص » فقال عمر : كذبت ما مات رسول الله « ص » ، ولكنك رجل تحوشك فتنة ولن يموت رسول الله « ص » حتى يفني المنافقين ، ثم جاء أبوبكر وعمر يخطب الناس فقال له ابوبكر : اسكت ... الخ
(19)
.
« الحوش : الجمع والسوق » .
ويروى ايضا : عن أبي هريرة : دخل ابوبكر المسجد وعمر بن الخطاب يكلم الناس ، فمضى حتى دخل بيت النبي « ص » الذي توفي فيه وهو في بيت عائشة ، فكشف عن وجه النبي « ص » برد حبرة كان مسجى به ، فنظر الى وجهه ثم اكبّ عليه فقبّله فقال : بأبي أنت والله لا يجمع الله عليك الموتتين ، لقدمت الموتة التي لا تموت بعدها ثم خرج ابوبكر الى الناس في المسجد وعمر يكلمهم فقال أبوبكر : اجلس يا عمر ، فأبى عمر أن يجلس ، فكلمه أبوبكر مرتين أو ثلاثا فلما أبى عمر أن يجلس قام أبوبكر فتشهد ، فأقبل الناس اليه وتركوا عمر ... الخ
(20)
.
ويروى ايضا : عن عائشة ان النبي « ص » مات وابوبكربالسُنح ، فقام عمر فجعل يقول : والله مامات رسول الله « ص » ... الخ .
أقول : يعلم من ذلك أن من قام وخطب بعد عمر هو العباس لا أبوبكر .
الأول
ـ من معارف بعضهم : أن النبي « ص » مامات ، وأن من يعتقد موته فهو منافق ، ثم يرجع النبي « ص » ويقطع يديه ورجليه .
الثاني
ـ ومن أحاطته بالقرآن الكريم وآياته : انه يقول والله ما هو الا أن سمعت ابابكر تلاها « أي تلى آية ـ أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم » ، ويقول ـ في حديث الطبقات عن أبي هريرة ـ والله لكأن الناس لم يعلموا أن هذه الآية انزلت .
الثالث
ـ ومن علومه في التفسير : أنه يزعم أن مقتضى آية «
لتكونوا شهدا على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا
» هو ادامة حياة رسول الله « ص » ليكون شهيدا على الأمة ، شهادة حسية خارجية .
الرابع
ـ ومن إطلاعاته التاريخية : انه يزعم أن موسى بن عمران عُرج بروحه وبقى جسده خاليا عن الروح مدة اربعين يوما ثم رجع روحه الى جسده ـ وواعدنا موسى ثلاثين ليلة ... الآية .
الخامس
ـ ومن تشخيصاته الطبية المزاجية : أنه زعم بعد كشف الثوب عن وجه رسول الله « ص » أنه مامات بل غُشي عليه .
السادس
ـ ومن فتاويه الفقهية : أنه زعم أن رسول الله يرجع ويقطع أرجل وأيدي من يدّعي موته .
السابع
ـ ومن شدة محبته وعلاقته لرسول الله « ص » : أنه بعد أن علم موته وأيقن رحلته ، أعرض عنه وعن تجهيزاته وتوجه مع أبي بكر والجراح الى سقيفة بني ساعدة لتعيين السلطان .
الثامن
ـ وليعلم أن هذه المراتب بعد أربعة ايام من قوله أن النبي ليهجر وكفانا كتاب الله .
التاسع
ـ يظهر منها أنه وكذلك ابوبكر ما كانا حاضرين عند رسول الله « ص » حين ما حضر ثم جاءا بعد رحلته .
وفي ذيل رواية الطبقات عن عائشة : فنشج الناس يبكون « بعد كلام أبي بكر » واجتمعت الأنصار الى سعد بن عبادة في سقيفة بني ساعدة ، فقالوا منا أمير ومنكم أمير ، فذهب اليهم ابوبكر وعمر وأبوعبيدة بن الجراح ، فذهب عمر يتكلم فاسكته ابوبكر ، فكان عمر يقول : والله ما اردت بذلك الا أني قد هيأت كلاما قد أعجبني خشيت أن لا يبلغه ابوبكر ... الخ .
ويروى أيضا : عن انس أنه سمع عمر بن الخطاب الغد ؛ حين بويع ابوبكر في مسجد رسول الله « ص » ، واستوى ابوبكر على منبر رسول الله « ص » ، واستوى ابوبكر على منبر رسول الله « ص » : تشهد قبل أبي بكر ثم قال : أما بعد فإني قلت لكم أمس مقالة لم تكن كما قلت ، وإني والله ما وجدتها في كتاب أنزله الله ولافي عهد عهده اليّ رسول الله « ص » ، فقال كلمة يريد حتى يكون آخرنا ، فاختار الله لرسوله الذي عنده على الذي عندكم ، وهذا الكتاب الذي هدى الله به رسولكم فخذوا به تهتدوا لما هُدي له رسول الله « ص » .
اقول : كان رسول الله « ص » يقول كرارا ـ إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي ، ولكن عمر بن الخطاب لا يذكر اسما من العترة .
أو لا يتذكر عمر بن الخطاب أن كتاب الله يحتاج الى مبيّن وعالم بحقائقه وظواهره وبواطنه ؟ أو لا يتذكر قول رسول الله « ص » لعلي : أنت مني بمنزلة هارون من موسى ؟ أو لا يتذكر قوله « ص » : من كنت أنا وليه فعلي وليه اللهم انصر من نصره واخذل من خذله ؟ أو لا يتذكر قوله « ص » لعلي : أنت ولي كل مؤمن بعدي وأنت مني وأنا منك ؟ أو لا يتذكر قوله « ص » : مثل اهل بيتي كمثل سفينة نوح من ركبها نجى ؟
وسيجيء تفصيل الكلام في الفتن الآتية .
فتنة
« سقيفة بني ساعدة »
الملل والنحل : الخلاف الخامس في الامامة واعظم خلاف بين الامة خلاف الامامة ، اذ ما سُلّ في السيف في الاسلام على قاعدة دينية مثل ما سل على الامامة في كل زمان ، وقد سهّل الله تعالى ذلك في صدر الأول ، فماختلف المهاجرون والأنصار فيها ، وقالت الأنصار منا أمير ومنكم أمير ، واتفقوا على رئيسهمسعد بن عبادة الأنصاري فاستدركه ابوبكر وعمر في الحال بأن حضرا سقيفة بني ساعدة ، وقال عمر : كنت ازوّر في نفسي كلاما في الطريق ، فلما وصلنا الى السقيفة اردت ان أتكلم ، فقال أبوبكر : مه يا عمر ! فحمد الله وأثنى عليه وذكر ما كنت اقدّره في نفسي كأنه يخبر عن غيب ، فقبل أن يشتغل الأنصار بالكلام مددت يدي اليه فبايعته وبايعه الناس ، وسكنت النائرة ، الا أن بيعة أبي بكر كانت فلتة وقى الله شرها ؛ فمن عاد الى مثلها فاقتلوه ، فأيما رجل بايع رجلا من غير مشورة من المسلمين تغرّة أن يُقتلا ، وإنما سكنت الأنصار عن دعواهم لرواية أبي بكر عن النبي عليه السلام « الأئمة من قريش » . وهذه البيعة هي التي جرت في السقيفة ، ثم لما عاد الى المسجد انثال الناس عليه وبايعوه عن رغبة ، سوى جماعة من بني هاشم وابي سفيان من بني امية ، واميرالمؤمنين عليّ كرم الله وجهه كان مشغولا بما أمره النبي « ص » من تجهيزه ودفنه وملازمته قبره ، من غير منازعة ولا مدافعة
(21)
.
أقول: في هذا الكلام موارد للنظر والتحقيق :
1 ـ جريان السقيفة : من اتفاق الأنصار على سعد ، واستدراك أبي بكر وعمر في الحال ، وتزوير عمر في الكلام ، وذكر أبي بكر ما كان يُزوره ، ومد عمر يده للبيعة قبل كلام الأنصار ، وكون بيعته فلتة ومن عاد الى مثلها فيجب قتله ، ولزوم كون البيعة مع مشورة المسلمين .
2 ـ استدلال أبي بكر في مقاله ودعواه : بحديث « الأئمة من قريش وسكوت الأنصار في مقابل هذا الكلام . ويؤيده قول اميرالمؤمنين « ع » : استدلوا بالشجرة واضاعوا الثمرة .
3 ـ قوله : وبايعوه عن رغبة ؛ اشارة الى أن بيعة السقيفة كانت لاعن رغبة بل بالاستدراك والتزوير ومد اليد وبالفلتة .
4 ـ قوله : سوى جماعة من بني هاشم وأبي سفيان .
5- قوله وكان اميرالمؤمنين مشغولا بما أمره النبي « ص » .
الفائق : الحباب رضي الله عنه قال يوم سقيفة بني ساعدة حين اختلف الأنصار في البيعة ـ أنا جُذيلها « بصيغة التصغير » المحكك وعُذيقها المرجّب منا امير ومنكم امير
(22)
.
الجِذل « بالكسر » : عود ينصب للابل الجَربى تَحتك به فتستشفى . والمُحكك الذي كثر به الاحتكاك حتى صار مُملّسا . والعَذق بالفتح النخلة . والمرجب : المدعوم بالرجبة ، وهي خشبة ذات شعبتين وذلك اذا طال وكثر حمله . والمعنى اني ذو رأي يشفي بالاستضاءة به كثيرا في مثل هذه الحادثة وأنا في كثرة التجارب والعلم بموارد الأحوال فيها وفي امثالها ومصادرها كالنخلة الكثيرة الحمل .
الفائق : قال عمر بن الخطاب لأبي عبيدة : ابسط يدك لاُبايعك ، فقال : ما رأيت منك ، أو ما سمعت منك فهّة في الاسلام قبلها ، أتُبايعني وفيكم الصديق ثاني اثنين (23) . قال الزمخشري : فهّ الرجل فهّة اذا جاءت منه سقطة أو جهلة .
ويروى : قال ابوبكر يوم سقيفة بني ساعدة : منا الأمراء ومنكم الوزراء ، والأمر بيننا وبينكم كقد الأبلمة . فقال حباب بن المنذر : أما والله لا نفس أن يكون لكم هذا الأمر ، ولكننا نكره أن يلينا بعدكم قوم قتلنا آباءهم وابناءهم . وقال الحباب ايضا :
أنا الذي لا يصطلى بنــاره ولا ينام الناس من سُعاره
(24)
وقال الزمخشري : القد هو القطع طولا . والأبلمة خوصة المقل ، وهي اذا شقت تساوى شقاها . ولا يصطلي بناره : مثل فيمن لا يتعرض لحربه . والسعار حر السعير . أقول : هذا الكلام صريح في رضا أبي بكر بوزارة الأنصار وتقسيم الأمر بين المهاجرين والأنصار على التساوي كقدّ الأبلمة .
تاريخ الطبري : ثم قال ابوبكر : إني قد رضيت لكم أحد هذين الرجلين عمر أو أبا عبيدة ، ... فقام عمر فقال : ايكم تطيب نفسه أن يخلف قدمين قدّمهما النبي « ص » ، فبايعه عمر وبايعه الناس . فيقالت الأنصار أو بعض الأنصار : لا نبايع الا عليا .
ويروى : فقال سعد : صدقت ، فنحن الوزراء وأنت الأمراء ، فقال عمر : ابسط يدك يا ابابكر فلاُبايعك ، فقال ابوبكر : بل أنت يا عمر فأنت أقوى لها مني ، وكان عمر أشد الرجلين ، قال ، وكان كل واحد منها يريد صاحبه يفتح يده يضرب عليها ، ففتح عمر يد أبي بكر وقال : أن لك قوّتي مع قوّتك ، فبايع الناس واستثبتوا للبيعة ، وتخلف عليّ والزبير واخترط الزبير سيفه وقال لا اغمُدُه حتى يبايع عليّ ، فبلغ ذلك ابابكر وعمر فقال عمر : خذوا سيف الزبير فاضربوا به الحجر ! قال : فانطلق اليهم عمر فجاء بهما تعبا وقال : لتُبايعان وأنتما طائعان أو لتبايعان وأنتما كارهان فبايعا
(25)
.
ويروى : قام عمر فحمد الله وأثنى عليه وقال : أما بعد ؛ فإني أريد أن أقول مقالة قد قُدّر أن أقولها ... ثم أنه بلغني أن قائلا يقول : لو قد مات اميرالمؤمنين بايعت فلانا ، فلا يغرّن امرءا أن يقول أن بيعة أبي بكر كانت فلتة ، فقد كانت كذلك غير أن الله وقى شرها وليس منكم من تقطّع اليه الأعناق مثل أبي بكر ، وأنه كان من خبرنا حين توفى الله نبيه « ص » ، ان عليا والزبير ومن معهما تخلفوا عنا في بيت فاطمة ، وتخلفت عنا الأنصار بأسرها واجتمع المهاجرون الى ابي بكر ، فقلت لأبي بكر : انطلق بنا الى اخواننا هؤلاء من الأنصار ، فانطلقنا نؤمّهم فلقينا رجلان صالحان قد شهدا بدرا ، فقالا : أين تريدون يا معشر المهاجرين ؟
فقلنا : نريد اخواننا هؤلاء من الأنصار ، قالا : فارجعوا فاقضوا أمركم بينكم ، فقلنا : والله لنأتينهم ، قال : فأتيناهم وهم مجتمعون في سقيفة بني ساعدة ، قال واذا بين أظهرهم رجل مزّمل ، قال قلت : من هذا ؟
قالوا سعد بن عبادة ، فقلت ما شأنه ؟ قالوا : وجع ، فقام رجل منهم فحمد الله وقال : أما بعد فنحن الأنصار وكتيبة الاسلام وأنتم يا معشر قريش رهط نبينا وقد دفّت الينا من قومكم دافة ، قال : فلما رأيتهم يريدون أن يختزلونا من أصلنا ويغصبونا الأمر وقد كنت زوّرت في نفسي مقالة اقدّمها بين يدي أبي بكر ، وقد كنت أداري منه بعد الحد ، وكان هو أوقر مني وأحلم ، فلما أردت أن أتكلم قال : على رسلك ، فكرهت أن أعصيه ، فقام فحمد الله وأثنى عليه ، فما ترك شيئا كنت زورت في نفسي أن أتكلم به لو تكلمت الا قد جاء به أو بأحسن منه ، وقال : أما بعد يا معشر الأنصار فإنكم لا تذكرون منكم فضلا الا وأنتم له أهل ، وأن العرب لا تعرف هذا الأمر الا لهذا الحي من قريش وهم أوسط دارا ونسبا ولكن قد رضيت لكم أحد هذين الرجلين ، فبايعوا أيهما شئتم ... فلما قضى أبو بكر كلامه قام منهم رجل فقال : أنا جُذيلها ... فارتفعت الأصواب وكثر اللغط ، فلما أشفقت الاختلاف قلت لأبي بكر : أبسط يدك أبايعك
(26)
.
كذا في مسند أحمد باختلاف
(27)
.
أقول : يظهر من هذا الكلام أن الأنصار بأجمعهم ومن بني هاشم من تخلفوا في بيت فاطمة « ع » كانوا مخالفين لبيعة أبي بكر ، أما الأنصار فبايعوا بعد أو وقعت الاختلافات الشديدة وارتفعت الأصوات وكثر اللغط ، وبنو هاشم فبايعوا بعد مدة مكرهين .
ويروى : فبدأ أبو بكر فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال : إن الله بعث محمدا ... فخصّ الله المهاجرين الأولين من قومه بتصديقه والايمان به والمواساة له والصبر معه على شدة أذى قومهم لهم وتكذيبهم اياهم ، وكل الناس لهم مخالف زار عليهم ، فلم يستوحشوا لقلة عددهم وشنف الناس لهم واجماع قومهم عليهم ، فهم اول من عبدالله في الأرض وآمن بالله وبالرسول ، وهم اولياؤه وعشيرته وأحق الناس بهذا الأمر من بعده ، ولا ينازعهم ذلك الا ظالم ، وأنتم يا معشر الأنصار من لا ينكر فضلهم في الدين ولا سابقتهم العظيمة في الاسلام ، رضيكم الله انصارا ...
فنحن الأمراء وأنتم الوزراء ، لا تفتاتون بمشورة ولانقتضي دونكم الأمور ، قال : فقام الحباب بن المنذر فقال : يا معشر الأنصار املكوا عليكم امركم فإن الناس في فيئكم وفي ظلكم ولن يجتريء مجتريء على خلافكم ولن يصدر الناس الا عن رأيكم ...
فمنا أمير ومنهم أمير ، فقال عمر : هيهات لا يجتمع اثنان في قرن والله لا ترضى العرب أن يومّروكم ونبيها من غيركم ولكن العرب لا تمتنع أن تُولي امرها من كانت النبوة فيهم وولي أمورهم منهم ، ولنا بذلك على من أبى من العرب المحجة الظاهرة والسلطان المبين ، من ذا يُنازعنا سلطان محمد وامارته ونحن اولياؤه وعشيرته الا مدل بباطل ...
فقام الحباب بن المنذر فقال : يا معشر الأنصار املكوا على ايديكم ولا تسمعوا مقالة هذا وأصحابه فيذهبوا بنصيبكم من هذا الأمر فإن أبوا عليكم ما سألتموه فأجلوهم عن هذه البلاد وتولوا عليهم هذه الأمور ، فأنتم والله أحق بهذا الأمر منهم فإنه بأسيافكم دان لهذا الدين من دان ممن لم يكن يدين ، أنا جُذيلها ...
فقال عمر : اذا يقتلك الله ، قال : بل اياك يقتل ! فقال ابو عبيدة : يا معشر الأنصار أنكم أول من نصر وآزر فلا تكونوا أول من بدّل وغيّر ، فقام بشير بن سعد فقال : يا معشر الأنصار إنا والله لئن كنا اولى فضيلة في جهاد المشركين وسابقة في هذا الدين ما أردنا به الا رضى ربنا وطاعة نبينا والكدح لأنفسنا فما ينبغي لنا أن نستطيل على الناس بذلك ولا ينبغي به من الدنيا عرضا فإن الله ولي المنة علينا بذلك ، ألا ان محمدا « ص » من قريش وقومه أحق به واولى ، وأيم الله لا يراني الله أنازعهم هذا الأمر أبدا ، فاتقوا الله ولا تخالفوهم ولا تنازعوهم .
فقال أبوبكر : هذا عمر وهذا أبو عبيدة فأيهما شئتم فبايعوا ! فقالا : لا والله لا نتولى هذا الأمر عليك ، فإنك أفضل المهاجرين وثاني اثنين اذ هما في الغار وخليفة رسول الله على الصلاة والصلاة أفضل دين المسلمين ، فمن ذا ينبغي له أن يتقدمك أو يتولى هذا الأمر عليك ، أبسط يدك نبايعك ؟
فلما ذهبا ليبايعاه سبقهما اليه بشير بن سعد فبايعه فناداه الحباب بن المنذر يا بشير بن سعد عققت عقاق ما أحوجك الى ما صنعت ، أنفست على ابن عمك الإمارة فقال : لا والله ولكني كرهت أن انازع قوما حقا جعله الله لهم ، ولما رأت الأوس ما صنع بشير بن سعد وما تدعو إليه قريش وما تطلب الخزرج من تأمير سعبد بن عبادة : قال بعضهم لبعض وفيهم أسيد بن حضير وكان أحد النقباء : والله لئن وليتها الخزرج عليكم مرة لا زالت لهم عليكم بذلك الفضيلة ، ولا جعلوا لكم معهم فيها نصيبا ابدا ، فقوموا فبايعوا ابابكر ! فقاموا اليه فبايعوه .
فانكسر على سعد بن عبادة وعلى الخزرج ما كانوا اجمعوا له من أمرهم ، ... فأقبل الناس من كل جانب يبايعون ابابكر وكادوا يطؤون سعد بن عبادة ، فقال ناس من أصحاب سعد : اتقوا سعدا لا تطؤه فقال عمر : اقتلوه قتله الله ، ثم قام على رأسه فقال : لقد هممت ان اطأك حتى تندر عضوك ، فأخذ سعد بلحية عمر فقال : والله لو حصصت منه شعرة ما رجعت وفي فيك واضحة ، فقال أبوبكر : مهلا يا عمر الرفق هيهنا ابلغ ، فاعرض عنه عمر ، وقال سعد : أما والله لو أن بي قوة ما أقوى على النهوض لسمعت مني في اقطارها وسككها زئيرا يحجرك واصحابك ، أما والله اذا لألحقتك بقوم كنت فيهم تابعا غير متبوع . احملوني من هذا المكان ! فحملوه فأدخلوه في داره ، وتُرك اياما ثم بُعث إلييه أن أقبل فبايع فقد بايع الناس وبايع قومك ! فقال أما والله حتى أرميكم بما في كنانتي من نبلي واُخضب سنان رمحي وأضربكم بسيفي ما ملكته يدي ، واقاتلكم بأهل بيتي ومن أطاعني من قومي ...
فلما اُتي ابوبكر بذلك قال له عمر : لا تدعه حتى يبايع ، فقال له بشير بن سعد : أنه قد لج وأبى وليس بمُبايعكم حتى يُقتل معه ولده وأهل بيته وطائفة من عشيرته ، فاتركوه فليس تركه بضاركم إنما هو رجل واحد ، فتركوه وقبلوا مشورة بشير بن سعد ، واستنصحوه لما بدا لهم منه ، فكان سعد لا يصلي بصلاتهم ولا يجمع معهم
(28)
.
أقول : فيما نقل عن الطبري موارد للدقة والاعتبار والتدبر .
1 ـ قول أبي بكر ـ قد رضيت لكم أحد هذين الرجلين ـ بل أنت يا عمر فأنت أقوى مني ـ وان العرب لا تعرف هذا الأمر الا لهذا الحي من قريش ـ ولكن قد رضيت لكم أحد هذين فبايعوا أيهما شئتم ؛ فيها دلالة على أن الأمر قد تحقق بالانتخاب والتدبير ، لا بالنص والوصية .
2 ـ قولهم : ـ فنحن الأمراء وأنتم الوزراء ـ فارجعوا فاقضوا أمركم بينكم ـ كنت زوّرت في نفسي أن أتكلم به الا قد جاء به ـ لا تفتاتون بمشورة ولا نقضي دونكم الأمور ـ فمنا أمير ومنهم أمير ـ ولكن العرب لا تمتنع ان تولي امرها من كانت النبوة فيهم ـ فأنتم والله أحق بهذا الأمر منهم ؛ فيها دلالة على أن الاختلاف انما كان في الحكومة والخلافة الظاهرية للمسلمين . وليس من مقامات العلم والمعرفة والروحانية والحقيقة ذكر فيما بينهم .
3 ـ قولهم : ـ فقالت الأنصار أو بعض الأنصار لا نبايع الا عليا ـ وتخلف علي والزبير واخترط الزبير سيفه وقال : لا أغمده حتى يبابع علي ـ ان عليا والزبير تخلفوا عنا في بيت فاطمة وتخلفت عنا الأنصار بأسرها ؛ فيها دلالة على ان لعلي « ع » حقا ثابتا ومقاما محرزا معلوما عندهم ، وليس ذلك الا بوصية رسول الله « ص » وقوله وبالأحاديث الواردة منه .
عقد الفريد : فقال حباب بن المنذر : منا أمير منكم أمير ، فإن عمل المهاجريّ في الأنصاري شيئا رد عليه وان عمل الأنصاري في المهاجري شيئا رد عليه ، وان لم تفعلوا فأنا جُذيلها المحكك وعُذيقها المرجب لنُعيدنّها جذعة . قال عمر : فاردت أن أتكلم وكنت زوّرت كلاما في نفسي . فقال ابوبكر : على رسلك يا عمر ، فما ترك كلمة كنت زوّرتها في نفسي الا تكلم بها ... فبايع الناس ابابكر واتوا به المسجد يبايعونه ، فسمع العباس وعلي التكبير في المسجد ولم يفرغوا من غسل رسول الله « ص » فقال علي : ما هذا ؟ قال العباس : مارُئي مثل هذا قط ، أما قلت لك
(29)
.
البخاري : ان رسول الله « ص » مات وابوبكر بالسُنخ يعني بالعالية ، فقام عمر يقول : والله مامات رسول الله « ص » وقال : والله ما كان يقع في نفسي الا ذاك وليبعثنه الله فيقطعنّ أيدي رجال وأرجلهم ، فجاء ابوبكر فكشف عن وليبعثنّه الله فليقطعنّ أيدي رجال وأرجلهم ، فجاء ابوبكر فكشف عن رسول الله « ص » فقبّله ، فقال : بأبي أنت وأمي طبت حيا وميتا والذي نفسي بيده لايُذيقك الله الموتتين ابدا ... واجتمعت الأنصار الى سعد بن عبادة في سقيفة بني ساعدة ، فقالوا : منا أمير ومنكم أمير ، فذهب اليهم أبوبكر الصديق وعمر بن الخطاب وابو عبيدة بن الجراح ، فذهب عمر يتكلم فأسكته ابوبكر ، وكان عمر يقول : والله ما اردت بذلك الا إني قد هيّأت كلاما قد أعجبني خشيت ان لا يبلّغه ابوبكر ، ثم تكلم ابوبكر فتكلم ابلغ الناس فقال في كلامه : نحن الأمراء وأنتم الوزراء ، فقال حباب بن المنذر : لا والله لا نفعل ، منا أمير ومنكم امير ، فقال أبوبكر : لا ولكنا الامراء وأنتم الوزراء . هم أوسط العرب دارا وأعربهم أحسابا فبايعوا عمر بن الخطاب أو ابا عبيدة بن الجراح ! فقال عمر : بل نبايعك أنت فأنت سيدنا وخيرنا وأحبنا الى رسول الله « ص » ، فأخذ عمر بيده فبايعه وبايعه الناس ، فقال قائل قتلتم سعد بن عبادة فقال عمر : قتله الله
(30).
أقول : يستفاد من صريح هذا الكلام المنقول من الصحيح امور :1 ـ استدل ابوبكر في مقام إختيار الأمير بقوله : أعرب أحسابا وأوسطهم دارا ؛ وهذا العنوان موجود في جميع افراد قريش .
2 ـ ولما لم يكن له امتياز وتفوق وليس لنفسه خصوصية ، فأشار الى أبي عبيدة وعمر ودلهم اليهما . أو أن هذا كان تدبيرا منه في المقام .
3 ـ فعلى هذا القيل والقال : يلزم أن يكون الوزير في هذه الحكومة من الأنصار ، فإن لهم نصيبا منها ، وهم الذين تبوّءوا الدار والإيمان من قبلهم يُحبون من هاجر اليهم .
4 ـ لا معنى صحيح لقول عمر : قتله الله : مع ان النبي « ص » كان يقول اوصيكم بالأنصار ، فإنهم كرشي وعيبتي فاقبلوا من محسنهم وتجاوزوا عن مسيئهم ـ كما في البخاري ج 2 ص 192 .
وفي البخاري : باسناده عن عمر بن الخطاب أنه قال : بلغني أن قائلا منكم يقول والله لو مات عمر بايعت فلانا ، فلا يغترنّ امرئ ان يقول : إنما كانت بيعة أبي بكر فلتة وتمّت ، ألا وانها قد كانت كذلك ولكنّ الله وقى شرها ، وليس منكم من يُقطع الأعناق اليه مثل أبي بكر ، من بايع رجلا من غير مشورة من المسلمين فلا يبايع هو ولا الذي بايعه تغرة أن يُقتلا ، وانه قد كان من خيرنا حين توفى الله نبيه « ص » ، ان الأنصار خالفونا واجتمعوا بأسرهم في سقيفة بني ساعدة ، وخالف عنا علي والزبير ومن معهما ، واجتمع المهاجرون الى أبي بكر ، فقلت لأبي بكر : يا أبابكر انطلق بنا الى اخواننا هؤلاء من الأنصار ، فانطلقنا نريدهم ، فلما دنونا منهم لقينا رجلان منهم صالحان فذكرا ما تمالأ عليه القوم ، فقالا : أين تريدون يا معشر المهاجرين ؟ فقلنا : نريد اخواننا هؤلاء من الأنصار ، فقالا : لا عليكم ان تقربوهم اقضوا أمركم !
فقلت والله لنأتينهم ، فانطلقنا حتى أتيناهم في سقيفة بني ساعدة فاذا رجل مزمل بين ظهرانيهم ، فقلت : من هذا ؟ قالوا : هذا سعد بن عبادة ، فقلت : ماله ؟ قالوا : يوعك ، فلما جلسنا قليلا تشهد خطيبهم فأثنى على الله بما هو أهله ثم قال : أما بعد : فنحن انصار الله وكتيبة الاسلام وأنتم معشر المهاجرين رهط وقد دفت دافة من قومكم ، فاذا هم يريدون ان يختزلونا من أصلنا وأن يحضونا من الأمر ، فلما سكت ، اردتُ ان اتكلم وكنت زوّرت مقالة اعجبتني اريد أن اقدمها بين يدي أبي بكر وكنت أداري منه بعض الحد ، فلما أردت أن أتكلم قال أبوبكر : على رسلك ! فكرهت أن أغضبه ، فتكلم أبوبكر فكان هو أحلم مني وأوقر ، والله ما ترك من كلمة أعجبتني في تزويري الا قال في بديهته مثلها أو أفضل حتى سكت ، فقال : ما ذكرتم فيكم من خير فأنتم له أهل ، ولن يعرف هذا الأمر الا لهذا الحي من قريش هم أوسط العرب نسبا ودارا ، وقد رضيت لكم أحد هذين الرجلين فبايعوا أيهما شئتم فأخذ بيدي وبيد أبي عبيدة بن الجراحوهو جالس بيننا ، فلم أكره مما قال غيرها ، كان والله أن اقدّم فتُضرب عنقي لا يقرّبني ذلك من أثم احب اليّ من أن اتأمّر على قوم فيهم أبوبكر ، اللهم الا أن تسوّل الى نفسي عندج الموت شيئا لا اجده الآن . فقال قائل من الأنصار : انا جُذيلها المُحكك وعُذيقها المرجب منا أمير ومنكم امير يا معشر قريش ! فكثر اللغط وارتفعت الأصوات حتى فرقتُ من الاختلاف ، فقلت : ابسط يدك يا ابابكر !
فبس يده فبايعته وبايعه المهاجرون ثم بايعته الأنصار . ونزونا على سعد بن عبادة ، فقال قائل منهم : قتلتم سعد بن عبادة ففقلت : قتل الله سعد بن عبادة ، قال عمر ك وانا والله ما وجدنا فيما حضرنا من امر اقوى من مبايعة أبي بكر ، خشينا أن فارقنا القوم ولم تكن بيعة أن يبايعوا رجلا منهم بعدنا ، فأما بايعناهم على ما لانرضى وأما نخالفهم فيكون فساد ، فمن بايع رجلا على غير مشورة من المسلمين فلا يبايع هو ولا الذي بايعه تغرّة ان يُقتلا
(31)
.
أقول : هذا الكلام مضبوط في أقدم كتاب وأصحّه وأتقنه من كتب اخواننا اهل السنة ، وكذا في تاريخ الطبري باختلاف يسير
(32)
، فمن تدبر فيه ورجع البصر اليه بعين الانصاف ونظر الى الحقيقة اطلع على اسرار هذا الأمر من جهات :
الأول
ـ أنه اقر وشهد بأن إمرة أبي بكر كانت فلتة من دون سابقة ، وقى الله شرها . وهذا يدل على نفي أي وصية من رسول الله « ص » في الخلافة .
الثاني
ـ إنه يقول بلزوم المشورة في هذا الأمر بعد ، ولا يجوز لأحد أن يبايع احدا حتى تقع فلتة ، فإنها في معرض الخطر والشر .
الثالث
ـ إنه يعترف بخلاف الأنصار وخلاف علي والزبير ومن معهما ، ففي هذه الصورة كيف يجوز التعبير عنها بالاجماع والاتفاق من اهل الحل والعقد ، وان ارادوا وقوع الاتفاق بعد اشهر فهذا قد يتحقق في أغلب الحكومات والدول ، بل ولايتحقق استقرار حكومة الا بالغلبة التامة والاستيلاء الكامل والتسلط على جميع الأفراد طوعا أو كرها ، ولو بالتدريج .
الرابع
ـ يعلم أن غلبة أبي بكر في السقيفة كانت من طريق التزوير ، وكان تزويره في خاطبه أحسن وأعجب مما زوّره عمر في نفسه .
الخامس
ـ ان قوله « فلم أكره مما قال غيرها » من الكلمات المزورة المخالفة للواقع ، كيف وقد امّر رسول الله « ص » اسامة عليهم قبل ايام قليلة من رحلته ، وكذا في غزوات اخر . فالإمرة مطلبوبة اذا كانت عن وظيفة .
فيا اخواننا هذه حقيقة إمرة أبي بكر ، فهل يجوز أنيكلّفنا العقل والشرع بوجوب طاعته وقبوله ، وهل يمكن أن يحكم الله ورسوله على كفر من تخلف عن هذه البيعة ، وهل يجوز أن نقول ان عليا وفاطمة والحسن والحسين ومن معهم من أهل بيت النبي « ص » كانوا على الضلالة ووقعوا في طريق خلاف الشريعة النبوية ، وقد قال النبي « ص » : الحق مع علي وعلي مع الحق ، وقال : أنت مني بمنزلة هارون من موسى ، وقال : أنت مني وأنا منك ، وقال : اللهم وال من والاه وعاد من عاداه .
السيرة النبوية : فأتى آت الى أبي بكر وعمر ، فقال : ان هذا الحي من الأنصار مع سعد بن عبادة في سقيفة بني ساعدة قد انحازوا اليه ، فإن كان لكم بأمر الناس حاجة فأدركوا قبل أن يتفاقم أمرهم ، ورسول الله « ص » في بيته لم يُفرغ من أمره قد أغلق دونه الباب أهله ، قال عمر : فقلت لأبي بكر انطلق بنا الى اخواننا هؤلاء من الأنصار حتى ننظر ما هم عليه
(33)
.
وقال : ثم أنه قد بلغني ان فلانا قال : والله لو قد مات عمر بن الخطاب لقد بايعت فلانا ، فلا يغرن امرئ أن يقول : ان بيعة أبي بكر كانت فلتة فتمت ، وانها قد كانت كذلك الا ان الله قد وقى شرها وليس فيكم من تنقطع الأعناق اليه مثل أبي بكر ، فمن بايع رجلا عن غير مشورة من المسلمين فإنه لا بيعة له هو ولا الذي بايعه تغرة ان يُقتلا انه كان من خيرنا حين توفى الله نبيه « ص » ... الخ
(34)
ـ كما في البخاري ج 4 ص 111 .
مقالات الاسلاميين : لوبلغ ذلك ابابكر وعمر فقصدا نحو مجتمع الأنصار في رجال من المهاجرين ، فأعلمهم ابوبكر أن الامامة لا تكون الا في قريش واحتج عليهم بقول النبيي « ص » الامامة في قريش ، فأذعنوا لذلك منقادين ورجعوا الى الحق طائعين ، بعد أن قالت الأنصار : منا أمير ومنكم امير ، وبعد أن جرد الحباب بن المنذر سيفه وقال : انا جُذيلها المحكك وعُذيقها المرجب من يبارزني ، بعد ان قام قيس بن سعد بنصرة أبيه سعد بن عبادة حتى قال عمر بن الخطاب في شأنه ما قال ، ثم بايعوا ابابكر
(35)
.
أقول : قد صرّح بأن الاتفاق في هذا المجتمع قد حصل بعد ذلك الاختلاف الشديد والتنازع وتجريد السيف ، مع غيبة اهل بيت النبي « ص » وخواص اصحابه ، وكان أقوى احتجاجهم في قولهم ان الامامة في قريش ، وقد قال علي « ع » في ذلك : احتجوا بالشجرة وأضاعوا الثمرة .
عيون ابن قتيبة : أراد عمر الكلام ، فقاله له ابوبكر : على رسلك . نحن المهاجرون اول الناس اسلاما ، واوسطهم دارا واكرمهم احسابا واحسنهم وجوها واكثر الناس ولادة في العرب ، وأمسّهم رَحِما برسول الله « ص » ، أسلمنا قبلكم وقُدمنا في القرآن عليكم ، فأنتم اخواننا في الدين وشركاؤنا في الفيء وانصارنا على العدو ، آويتم وواسيتم فجزاكم الله خيرا ، نحن الامراء وأنتم الوزراء لا تدين العرب الا لهذا الحي من قريش ، وانتم محقوقون الا تنفسوا على اخوانكم من المهاجرين ما ساق الله اليهم
(36)
.
أقول : العلل المذكورة في الخطبة كلها راجعة الى العناوين الظاهرية والتشخصات الصورية والحسب والنسب والمتاع الدنيوي ، وليس فيها ذكر من العلم والايمان والروحانية والمقام المعنوي ، فهذا اول كلام بعد النبي « ص » دُعي فيه المسلمون الى اتباع الشخصية الظاهرية واُسقط العلم والايمان وحذف من صحيفة الامامة قيد التقوى والمعرفة .
وفي اثر هذا الكلام ترى أن معاوية بن أبي سفيان وسائر افراد بني امية ادعوا مقام خلافة رسول الله « ص » : مع أنهم فعلوا ما فعلوا وارتكبوا من الظلم والطغيان ما ارتكبوا وظلموا آل محمد « ص » ما ظلموا ! ومع هذا قد اطاع المسلمون لهم وانقادوا لحكومتهم !!
الطبقات : فتكلم ابوبكر فقال : نحن الأمراء وأنتم الوزراء وهذا الأمر بيننا وبينكم نصفين كقدّ الاُبلُمة « يعني الخوصة » ، فبايع اول الناس بشير بن سعد ابوالنعمان ، قال : فلما اجتمع الناس على أبي بكر قسّم بين الناس قسما فبعث الى عجوز من بني عديّ بن النجّار بقسمها مع زيد بن ثابت ، فقالت : ما هذا ؟ قال قسم قسّمه ابوبكر للنساء ، فقالت أتُراشوني عن ديني ؟ فقالوا : لا ، فقالت أتخافون ان أدع ما أنا فيه ؟ فقالوا : لا ، فقالت : أتخافون أن ادع ما أنا فيه ؟ فقالوا : لا ، قالت : فوالله لا آخذ منه شيئا ابدا ، فرجع زيد الى أبي بكر فأخبره بما قالت ، فقال أبوبكر فأخبره بما قالت ، فقال ابوبكر : ونحن لا نأخذ مما اعطيناها شيئا ابدا
(37)
.
أقول : هذا التقسيم كان مما يُحكّم ويشدّد ويُثبّت إمارة أبي بكر ، والغرض منه جلب النفوس الأبيّة وتقريب القلوب المخالفة وتحبيبها ورفع الاختلافات والموانع ، وكان هذا لغرض ظاهر بحيث ان العجوز قد فهمته .
انساب الأشراف : لما قبض رسول الله « ص » أتى عمر بن الخطاب ابا عبيدة بن الجراح فقال له : ابسط يدك نبايعك فإنك أمين هذه الأمة على لسان رسول الله « ص » . فقال : يا عمر ؛ ما رأيت لك تهمة منذ اسلمت قبلها ، أتبايعني وفيكم الصديق وثاني اثنين
(38)
.
أقول : هذا الكلام والاستخلاف من عمر بن الخطاب يكشف عن انه كان متحيرا في تعيين الخليفة ، وكان معرضا عن أهل بيت النبي وعترته الذين أوصى بهم رسول الله « ص » ، ومع هذا كان لايعتني برأي الأصحاب ولايتوجه الى المشاورة مع الآخرين والى حصول الاجماع .
ويروى ايضا : « في ص 580 » كما في الطبقات ج 3 ص 182 .
ويروى ايضا ثم قال : بلغني أن الزبير قال ـ لو قدمات عمر بايعنا عليا وإنما كانت بيعة أبي بكر فلتة ـ فكذب والله لقد أقامه رسول الله « ص » مقامه واختاره لعماد الدين على غيره ، وقال : يأبى الله والمؤمنون الا ابابكر ، فهل منكم من تمدّ اليه الأعناق مثله
(39)
.
أقول : هذا القول مخالف لما سبق من قوله لأبي عبيدة ـ ابسط يدك نبايعك فإنك أمين هذه الأمة ، وهكذا مخالف لقول أبي بكر ـ إن تطيعوا امري تبايعوا أحد هذين الرجلين ابا عبيدة وكان عن يمينه أو عمر بن الخطاب وكان عن شماله
(40)
ـ ، وكما مرّ ما يقرب منه من البخاري .
ويروى ايضا : عن جابر : قال العباس لعلي : ما قدمتك الى شيء الا تأخرت عنه ، وكان قال له لما قبض رسول الله « ص » : اُخرج حتى اُبايعك على اعين الناس فلا يختلف عليك اثنان . فأبى وقال : أو منهم من ينكر حقنا ويستبد علينا ؟ فقال العباس : سترى أن ذلك سيكون . فلما بويع ابوبكر ، قال له العباس : ألم أقل لك يا علي ؟
(41)
.
أقول : يظهر من هذه المكالمة ان خلافة علي « ع » كانت مسلّمة قطعية في نظرهم ولا سيما في نظر علي « ع » ، وكان لا يحتمل خلاف احد وانكاره واستبداده عليه . ويروى ايضا : قال سلمان الفارسي حين بويع ابوبكر كردادونا كرداد أي عملتم وما عملتم وما عملتم ، لو بايعوا عليا لأكلوا من فوقهم ومن تحت ارجلهم
(42)
.
أقول : يريد أنكم باستخلاف أبي بكر فعلتم ما فعلتم وحرّفتم وصية رسول الله « ص » عن موضعها وظلمتم آله وعترته وغصبتم حق علي « ع » ولكن ما ظلمتم الا انفسكم ، وما فعلتم الا على انفسكم .
يقول : في منتخب كنزل العمال : ان ابابكر حين استُخلف قعد في بيته حزينا ، فدخل عليه عمر فأقبل يلومه ، وقال : أنت كلفتني هذا الأمر وشكى اليه الحكم بين الناس ! فقال له عمر : أو ما علمت ان رسول الله « ص » قال : ان الوالي اذا اجتهد فأصاب الحق فله أجران واذا اجتهد فأخطأ الحق فله أجران واذا اجتهد فأخطأ الحق فله اجر واحد
(43)
.
ويقول : عن رافع قال : لما استخلف الناس ابابكر قلت : صاحبي الذي أمرني أن لا أتأمّر على رجلين ! فارتحلت فانتهيت الى المدينة فتعرّضت لأبي بكر ، فقلت له : يا أبابكر أتعرفني ؟ قال : نعم : قلت أتذكر شيئا قلته لي لا أتأمّر على رجلين ، وقد وليت أمر الأمة ؟ فقال : ان رسول الله « ص » قبض والناس حديث عهد بكفر ، فخفت عليهم ان يرتدّوا وان يختلفوا ، فدخلت فيها وأنا كاره ، ولم يزل بي صاحبي يعتذر حتى عذرته
(44)
.
أقول : فليستنتج المحقق الحر من هذه الكلمات أيّ نتيجة يدرك بفكره الثاقب ونظره الخالص .
منقول من کتاب الحقائق في تاريخ الإسلام والفتن والاحداث حسن المصطفوي
----------------------------------------------------------------------------------------------
1 ـ الملل والنحل ج 1 ص 14 .
2 ـ تهذيب ابن عساكر ج 1 ص 120 .
3 ـ البخاري ج 2 ص 187 ومسلم ج 7 ص 131 .
4 ـ مسند أحمد ج 2 ص 106 .
5 ـ الطبقات ج 2 ص 190 .
6 ـ الطبقات ج 2 ص 249 .
7 ـ نفس المصدر ج 4 ص 68 .
8 ـ نفس المصدر ج 4 ص 67 .
9 ـ انساب الأشراف ج 1 ص 384 .
10 ـ نفس السابق ص 474 .
11 ـ تهذيب ابن عساكر ج 1 ص 122 .
12 ـ امتاع الأسماع ج 1 ص 536 .
13 ـ الملل والنحل ج 1 ص 15 .
14 ـ مسند أحمد ج 3 ص 196 .
15 ـ تاريخ الطبري ج 3 ص 197 ، والسيرة النبوية ج 4 ص 305 .
16 ـ السيرة النبوية ج 4 ص 312 .
17 ـ سنن الدارمي ج 1 ص 39 .
18 ـ الطبقات ج 2 ص 266 .
19 ـ الطبقات ج 2 ص 267 .
20 ـ نفس المصدر ص 268 .
21 ـ الملل والنحل ج 1 ص 16 .
22 ـ الفائق ج 1 ص 181 .
23 ـ الفائق ج 2 ص 305 .
24 ـ الفائق ج 2 ص 321 .
25 ـ نفس المصدر ص 199 .
26 ـ تاريخ الطبري ج 3 ص 200 .
27 ـ مسند أحمد ج 1 ص 55 .
28 ـ تاريخ الطبري ج 3 ص 208 .
29 ـ عقد الفريد ج 4 ص 257 .
30 ـ البخاري ج 2 ص 179 .
31 ـ البخاري ج 4 ص 111 .
32 ـ تاريخ الطبري ج3 ص 200 .
33 ـ السيرة النبوية ج 4 ص 307 .
34 ـ نفس المصدر ص 308 .
35 ـ مقالات الإسلاميين ج 1 ص 40 .
36 ـ عيون ابن قتيبة ج 2 ص 233 .
37 ـ الطبقات ج 3 ص 182 .
38 ـ أنساب الأشراف ج 1 ص 579 .
39 ـ أنساب الأشراف ج 1 ص 581 .
40 ـ نفس المصدر 582 .
41- انساب الأشراق ج 1 ص 583 .
42- نفس المصدر ص 591 .
43- منتخب كنز العمال ج 2 ص 158 .
44 ـ نفس المصدر ص 160 .