احمد شوقی :
أرأيت زينَ العابدينَ مجهزاً
نقلوه نقل الورد من محرابه
من دار توأمهِ وصنوِ حياته
والأولِ المألوفِ من أترابه
ساروا به من باطلِ الدنيا إلى
بُحْبوحَة ِ الحقِّ المبينِ وغابِه
ومضوا به لسبيل آدمَ قبله
ومصاير الأقوامِ من أعقابه
تحنو السماءُ على زكيِّ سريره
ويمسُّ جيدَ الأرضِ طيبُ ركابه
وتطيبُ هامُ الحاملين وراحهم
من طِيب مَحْمِلِه، وطِيبِ ثيابه
وكأنَّ مصرَ بجانبيهِ ربوة ٌ
آذارُ آذنها بوَشْكِ ذَهابه
ويكاد من طربٍ لعادته الندى
ينسلُّ للفقراءِ من أثوابه
الطيبُ ابنُ الطيبين، وربما
نضح الفتى فأَبان عن أَحسابه
والمؤمنُ المعصومُ في أَخلاقه
من كل شائنة ٍ، وفي آدابه
أَبداً يراه الله في غَلسِ الدُّجَى
من صحنِ مسجده، وحول كتابه
ويرى اليتامى لائذين بظله
ويرى الأراملَ يعتصمنَ ببابه
ويراه قد أدى الحقوقَ جميعها
لم يَنْسَ منها غيرَ حقِّ شبابه
أدّى من المعروف حصة َ أهلهِ
وقضى من الأحساب حقَّ صحابه
مهويشُ، أين أبوكَ؟ هل ذهبوا به
قد وكَّل الله الكريمَ وعَيْنَه
بكِ، فاحسبيه على كريم رحابه
ودَعي البُكا، يكفيه ما حَمَّلْتِه
من دمعكِ الشاكي، ومن تسكابه
ولقد شربتِ بحادث يا طالما
شربَتْ بناتُ العالمين بِصَابه
كلُّ امرىء ٍ غادٍ على عوّاده
وسؤالهم: ما حاله؟ ماذا به؟
والمرءُ في طلب الحياة ِ طويلة ً
وخطى المنية ِ من وراءِ طلابه؟
في برِّ عَمِّكِ ما يقوم مكانَه
في عطفه، وحنانه، ودعابه
إسكندرية ُ، كيف صبركِ عن فتى ً
الصبرُ لم يُخلق لمثل مُصابه
عطلتْ سماؤك من بريق سحابها
وخَبا فَضاؤكِ من شُعاع شِهابه
زينُ الشبابِ قضى ، ولم تتزودي
منه، ولم تتمتَّعي بقَرابه
قد نابَ عنكِ، فكان أصدقَ نائبٍ
والشعْبُ يَهْوَى الصِّدق في نُوّابه
أَعلمتِه اتَّخذ الأَمانة َ مَرَّة ً
سبباً يبلغه إلى آرابه؟
لو عاش كان مؤملاً لمواقفٍ
يرجوا لها الوادي كرامَ شبابه
يجلوا على الألبابِ همّة َ فكره
ويناولُ الأسماعَ سحرَ خطابه
ويفي كديدنهِ بحقٍّ بلاده
ويفي بعهد المسلمين كدابه
تَقْواكَ إسماعيلُ؛ كلُّ عَلاقة ٍ
سيبتها الدهرُ العضوضُ بنابه
إنَّ الذي ذقتَ العشية َ فقده
بِتَّ الليالي مُوجَعاً لعذابه
فارقتَ صنوكَ مرتين، فلاقهِ
في عالم الذكرى وبين شعابه
من عادة الذكرى تردُّ من النوى
من لا يدينِ لنا بطيِّ غيابه
حُلمٌ كأَحلام الكَرَى وسِناتِه
مُسْتَعْذَبٌ في صدقه وكِذابه
اسكُبْ دُموعَكَ لا أَقول: اسْتَبْقِها
فأخو الهوى يبكي على أحبابه
********************
أَحيثُ تَلوحُ المُنى تأْفلُ
أَحيثُ تَلوحُ المُنى تأْفلُ؟
كفى عظة ً أيها المنزلُ؟
حكيْتَ الحياة وحالاتِها
فهلاَّ تخطَّيْتَ ما تنقل؟
أَمِن جنْحِ ليلٍ إلى فجرِه
حمّى يزدهي، وحمى يعطل؟
وذلك يوحش من ربة ٍ
وذلك من ربة ٍ يأهل؟
أجاب النعيُّ لديكَ البشيرَ
وذاقَ بكأسيهما المحفل
وأطرق بينهما والدٌ
أَخو ترْحَة ٍ، ليلُه أَلْيَل
يفىء ُ إلى العقل في أمره
ولكِنَّهُ القلبُ، لا يعقِل
تهاوت عن الوردِ أَغصانُه
وطارَ عن البيضة البلبل
وراحت حياة ٌ، وجاءت حياة ٌ
وأَظهرَ قدرتَه المُبْدِل
وما غيرُ منْ قد أتى مدبرٌ
ولا غيرُ منْ قد مضى مقبل
كأني بسامي هلوعُ الفؤادِ
إذا أَسمعَتْ همْسة ٌ يَعجَل
يرى قدراً يأملُ اللطفَ فيه
وعادي الردى دون ما يأمل
يُضيءُ لضِيفانه بِشْرُه
وبين الضلوعِ الغَضَى المُشْعَل
ويَقْرِيهُمُ الأُنَس في منزلٍ
ويجمعهُ والأسى منزل
إلى غادة ٍ داؤها معضل
وذي في نفاستِهَا تَنطوي
وذي في نفائسها تَرفُل
تَقسَّمَ بينهما قلبُه
وخانته عيناه والأرجل
فيا نكدَ الحرِّ، هل تنقضي؟
ويا فرح الحرِّ، هل تَكْمُل؟
ويا صبر سامي، بلغتَ المدى
ويا قلبه السهلَ، كم تحمل؟
لقد زدتَ من رقة ٍ كالصراط
ودون صَلابتِكَ الجَنْدَل
يَمرّ عليك خليطُ الخُطوب
ويجتازك الخفُّ والمثقل
ويا رجل الحِلْمِ، خُذ بالرضى
فذلك من متقٍ أجمل
أتحسب شهدا إناءً الزمانِ
وطينتُه الصابُ والحَنْظَل؟
وما كان مِن مُرِّهِ يَعتلي
وما كان مِن حُلوهِ يسْفل
وأَنت الذي شربَ المترَعاتِ
فأَيُّ البواقي به تَحفِل؟
أَفي ذا الجلالِ، وفي ذا الوقارِ
تُخِيفُك ضَراءُ أَو تُذهِل؟
أَلم تكن الملْكَ في عزِّه
وباعُك من باعه أَطْوَل؟
وقولك من فوق قولِ الرجالِ
وفعلك من فعلهم أنبل؟
ستعرفُ دنياك من ساومتْ
وأن وقارك لا يبذل
كأنك شمشون لهذي الحياة ِ
وكلُّ حوادثها هيكل
*****************
قصيدة : أنظر إلى الأقمار كيف تزولُ
أنظر إلى الأقمار كيف تزولُ
وإلى وُجوهِ السَّعْدِ كيف تَحول
وإلى الجبالِ الشمِّ كيف يميلها
عادي الرّدى بإشارة ٍ فتميل
وإلى الرياح تخرُّ دون قرارها
صرعى عليهن الترابُ مهيل
وإلى النُّسور تقاصرت أعمارها
والعهدُ في عمر النسورِ يطول
في كلِّ منزلة ٍ وكل سمِيَّة
قمرٌ من الغُرِّ السُّماة ِ قتيل
يهوي القضاء بها، فما من عاصمٍ
هيهات! ليس من القضاءِ مُقيل
فتحُ السماءِ ونورُها سكنا الثرى
فالأَرضُ وَلْهى ، والسماءُ ثَكول
سِرْ في الهواءِ، ولُذ بناصية ِ السُّها
الموتُ يرفرفُ فيه عزرائيل
ولكلّ نفسٍ ساعة ٌ، مَنْ لم يَمُتْ
فيها عزيزاً مات وهو ذليل
أَإلى الحياة ِ سَكنْتَ وهْي مَصارعٌ
وإلى الأماني يسكنُ المسلولَ؟
لا تحفلنّ ببؤسها ونعيمها
نعمى الحياة ِ وبؤسها تضليل
ما بين نَضرَتِها وبين ذُبولِها
عمرُ الورودِ، وإنه لقليل
يجري من العبَراتِ حولَ حديثِه
ما كان من فرحٍ عليه يسيل
ولرُبَّ أَعراسٍ خَبَأْن مآتماً
كالرُّقْط في ظلِّ الرياضِ تقيل
يا أيها الشهداءُ، لن ينسى لكم
فتحٌ أَغرُّ على السماءِ جميل
والمجدُ في الدنيا لأَوّلِ مُبْتنٍ
ولمن يشيد بعده فيطيل
لولا نفوسٌ زُلْنَ في سُبُل العُلا
لم يهدِ فيها السالكين دليل
والناسُ باذلُ روحه، أو مالهِ
أَو علمِه، والآخرون فُضول
والنَّصْرُ غرَّتُه الطلائعُ في الوغَى
والتابعون من الخميس حُجول
كم ألف ميلٍ نحو مصرَ قطعتمُ
فِيم الوقوفُ ودون مصر مِيل؟
طوروسُ تحتكم ضئيلٌ، طرْفُه
لمّا طلَعتم في السحاب كَلِيل
ترخون للريح العنان، وإنها
لكمُ على طغيانها لذلول
إثنين إثر اثنين، لم يخطر لكم
أنّ المنيّة ثالثٌ وزميل
ومن العجائب في زمانِك أَن يَفِي
لك في الحياة ِ وفي الممات خليل
لو كان يفدّى هالكٌ لفداكمُ
في الجوّ نسرٌ بالحياة بَخيل
أيُّ الغُزاة ِ أُولِي الشهادة ِ قبلكم
عرضُ السماءِ ضريحهم والطول؟
يغدو عليكم بالتحية ِ أهلها
يرفرفُ التسبيح والتهليل
إدريسُ فوقَ يمينهِ ريحانة ٌ
ويَسوعُ فوق يمينِه إكليل
في عالم سكانه أنفاسهم
طيب، وهمسُ حديثهم إنجيل
إني أخاف على السماء من الأذى
في يومِ يفسد في السماءِ الجيل
كانت مطهَّرة الأَديمِ، نَقِيَّة ً
لا آدمٌ فيها، ولا قابيل
يَتوجَّه العاني إلى رحماتِها
ويرى بها برقَ الرجاءِ عليل
ويُشيرُ بالرأْس المُكَلَّلِ نحوَها
شيخٌ، وباللحظ البريءِ بتول
واليومَ للشهواتِ فيها والهوى
سَيْلٌ، وللدَّمِ والدموعِ مسيل
أضحتْ ومن سفن الجواءِ طوائفٌ
فيها، ومن خيل الهواءِ رَعيل
وأزيل هيكلها المصونُ وسرُّه
والدهرُ للسر المصون مذيل
هلِعَت دِمشْقُ؛ وأَقبلَتْ في أَهلها
ملهوفة ً، لم تدر كيف تقول
مشت الشجونُ بها، وعمَّ غياطها
بينَ الجداولِ والعيونِ ذُبول
في كلِّ سهلٍ أَنة ٌ وَمناحة ٌ
وبكلِّ حَزْنٍ رنَّة ٌ وعويل
وكأَنما نُعِيَتْ أُميَّة ُ كلُّها
للمسجد الأُمَوِيِّ، فهْوَ طُلول
خضَعَتْ لكم فيه الصفوفُ، وأُزْلِفَتْ
لكمُ الصلاة ُ، وقربَ الترتيل
من كل نَعْشٍ كالثُّريّا، مَجْدُه
في الأَرضِ عالٍ، والسماء أَصيل
فيه شهيدٌ بالكتاب مكفنٌ
بمدامع الروحِ الأَمين غَسيل
أَعواده بين الرجالِ، وأَصلُه
بين السُّهى والمشتري محمول
يَمشي الجنودُ به، ولولا أَنهم
أولى بذاكَ مشى به جبريل
حتى نزلتم بُقعة ً فيها الهوى
من قبلُ ثاوٍ، والسماحُ نَزيل
عَظُمَتْ، وجلَّ ضَريحُ يوسفَ فوقَها
حتى كأَنّ الميْت فيه رسول
شعري، إذا جبتَ البحار ثلاثة ً
وحواكَ ظلُّ في فروقَ ظليل
وتداولَتْكَ عصابة ٌ عربيّة ٌ
بينَ المآذنِ والقِلاعِ نُزول
وبَلغْتَ من بابِ الخِلافة ِ سُدَّة ً
لستورها التَّمسيحُ والتقبيل
قلْ للإمام محمدٍ، ولآله
صبرُ العظامِ على العظيم جميل
تلك الخطوبُ ـ وقد حملتم شطرَها ـ
ناءَ الفراتُ بشطرها والنيل
إن تَفقِدوا الآسادَ أَو أَشبالَها
فالغابُ من أمثالها مأهول
صبراً، فأجرُ المسلمينن وأجركم
عند الإله، وإنه لجزيل
يا من خلافته الرَّضيَّة ُ عصمة ٌ
للحقِّ، أنت بأن يحقّ كفيل
والله يعلم أنّ في خلفائه
عدلاً يقيم الملكَ حين يميل
والعدلُ يَرفع للممالك حائطاً
لا الجيشُ يرفعه ولا الأُسطول
هذا مقامٌ أنت فيه محمدٌ
والرفقُ عند محمدٍ مأمول
بالله، بالإسلام، بالجرح الذي
ما انفكَّ في جنب الهلال يسيل
إلا حللتَ عن السجين وَثَاقَه
إنَّ الوثاق على الأسود ثقيل
أيقول واشٍ، أو يردِّدُ شامتٌ
صنديدُ برقة موثقٌ مكبول؟
هو من سيوفِك أَغمدُوه لريبة ٍ
ما كان يُغمَدُ سيفُك المسلول
فاذكر أميرَ المؤمنين بلاءه
واستبقه، إن السيوفَ قليل