بسم الله الرحمن الرحيم كلام :108
كُلُّ شَيْءٍ خَاشِعٌ لَهُ وَ كُلُّ شَيْءٍ قَائِمٌ بِهِ، غِنَى كُلِّ فَقِيرٍ، وَ عِزُّ كُلِّ ذَلِيلٍ، وَ قُوَّةُ كُلِّ ضَعِيفٍ، وَ مَفْزَعُ كُلِّ مَلْهُوفٍ، مَنْ تَكَلَّمَ سَمِعَ نُطْقَهُ، وَ مَنْ سَكَتَ عَلِمَ سِرَّهُ، وَ مَنْ عَاشَ فَعَلَيْهِ رِزْقُهُ، وَ مَنْ مَاتَ فَإِلَيْهِ مُنْقَلَبُهُ.
لَمْ تَرَكَ الْعُيُونُ فَتُخْبِرَ عَنْكَ، بَلْ كُنْتَ قَبْلَ الْوَاصِفِينَ مِنْ خَلْقِكَ.
لَمْ تَخْلُقِ الْخَلْقَ لِوَحْشَةٍ، وَ لاَ اسْتَعْمَلْتَهُمْ لِمَنْفَعَةٍ، لاَ يَسْبِقُكَ مَنْ طَلَبْتَ، وَ لاَ يُفْلِتُكَ مَنْ اءَخَذْتَ، وَ لاَ يَنْقُصُ سُلْطَانَكَ مَنْ عَصَاكَ، وَ لاَ يَزِيدُ فِي مُلْكِكَ مَنْ اءَطَاعَكَ، وَ لاَ يَرُدُّ اءَمْرَكَ مَنْ سَخِطَ قَضَاءَكَ، وَ لاَ يَسْتَغْنِي عَنْكَ مَنْ تَوَلَّى عَنْ اءَمْرِكَ، كُلُّ سِرِّ عِنْدَكَ عَلاَنِيَةٌ، وَ كُلُّ غَيْبٍ عِنْدَكَ شَهَادَةٌ.
اءَنْتَ الْاءَبَدُ فَلاَ اءَمَدَ لَكَ، وَ اءَنْتَ الْمُنْتَهَى فَلاَ مَحِيصَ عَنْكَ، وَ اءَنْتَ الْمَوْعِدُ فَلاَ مَنْجَى مِنْكَ إِلا إِلَيْكَ، بِيَدِكَ نَاصِيَةُ كُلِّ دَابَّةٍ، وَ إِلَيْكَ مَصِيرُ كُلِّ نَسَمَةٍ، سُبْحَانَكَ مَا اءَعْظَمَ شَأْنَكَ سُبْحَانَكَ مَا اءَعْظَمَ مَا نَرَى مِنْ خَلْقِكَ، وَ مَا اءَصْغَرَ كُلَّ عَظِيمَةٍ فِي جَنْبِ قُدْرَتِكَ، وَ مَا اءَهْوَلَ مَا نَرَى مِنْ مَلَكُوتِكَ، وَ مَا اءَحْقَرَ ذَلِكَ فِيمَا غَابَ عَنَّا مِنْ سُلْطَانِكَ، وَ مَا اءَسْبَغَ نِعَمَكَ فِي الدُّنْيَا، وَ مَا اءَصْغَرَهَا فِي نِعَمِ الْآخِرَةِ.
مِنْهَا:
مِنْ مَلاَئِكَةٍ اءَسْكَنْتَهُمْ سَمَاوَاتِكَ، وَ رَفَعْتَهُمْ عَنْ اءَرْضِكَ، هُمْ اءَعْلَمُ خَلْقِكَ بِكَ، وَ اءَخْوَفُهُمْ لَكَ، وَ اءَقْرَبُهُمْ مِنْكَ، لَمْ يَسْكُنُوا الْاءَصْلاَبَ، وَ لَمْ يُضَمَّنُوا الْاءَرْحَامَ، وَ لَمْ يُخْلَقُوا مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ، وَ لَمْ يَتَشَعَّبْهُمْ رَيْبُ الْمَنُونِ، وَ إِنَّهُمْ عَلَى مَكَانِهِمْ مِنْكَ، وَ مَنْزِلَتِهِمْ عِنْدَكَ وَ اسْتِجْمَاعِ اءَهْوَائِهِمْ فِيكَ، وَ كَثْرَةِ طَاعَتِهِمْ لَكَ، وَ قِلَّةِ غَفْلَتِهِمْ عَنْ اءَمْرِكَ، لَوْ عَايَنُوا كُنْهَ مَا خَفِيَ عَلَيْهِمْ مِنْكَ لَحَقَّرُوا اءَعْمَالَهُمْ، وَ لَزَرَوْا عَلَى اءَنْفُسِهِمْ، وَ لَعَرَفُوا اءَنَّهُمْ لَمْ يَعْبُدُوكَ حَقَّ عِبَادَتِكَ، وَ لَمْ يُطِيعُوكَ حَقَّ طَاعَتِكَ.
سُبْحَانَكَ خَالِقا وَ مَعْبُودا، بِحُسْنِ بَلاَئِكَ عِنْدَ خَلْقِكَ، خَلَقْتَ دَارا، وَ جَعَلْتَ فِيهَا مَأْدُبَةً، مَشْرَبا وَ مَطْعَما وَ اءَزْوَاجا وَ خَدَما وَ قُصُورا وَ اءَنْهَارا وَ زُرُوعا وَ ثِمَارا.
ثُمَّ اءَرْسَلْتَ دَاعِيا يَدْعُو إِلَيْهَا فَلاَ الدَّاعِيَ اءَجَابُوا، وَ لاَ فِيمَا رَغَّبْتَ رَغِبُوا، وَ لاَ إِلَى مَا شَوَّقْتَ إِلَيْهِ اشْتَاقُوا، اءَقْبَلُوا عَلَى جِيفَةٍ قَدِ افْتَضَحُوا بِاءَكْلِهَا، وَ اصْطَلَحُوا عَلَى حُبِّهَا، وَ مَنْ عَشِقَ شَيْئا اءَعْشَى بَصَرَهُ، وَ اءَمْرَضَ قَلْبَهُ، فَهُوَ يَنْظُرُ بِعَيْنٍ غَيْرِ صَحِيحَةٍ، وَ يَسْمَعُ بِأُذُنٍ غَيْرِ سَمِيعَةٍ، قَدْ خَرَقَتِ الشَّهَوَاتُ عَقْلَهُ، وَ اءَمَاتَتِ الدُّنْيَا قَلْبَهُ، وَ وَلَّهَتْ عَلَيْهَا نَفْسُهُ.
فَهُوَ عَبْدٌ لَهَا وَ لِمَنْ فِي يَدَيْهِ شَيْءٌ مِنْهَا، حَيْثُمَا زَالَتْ زَالَ إِلَيْهَا، وَ حَيْثُمَا اءَقْبَلَتْ اءَقْبَلَ عَلَيْهَا، لاَ يَنْزَجِرُ مِنَ اللَّهِ بِزَاجِرٍ، وَ لاَ يَتَّعِظُ مِنْهُ بِوَاعِظٍ، وَ هُوَ يَرَى الْمَأْخُوذِينَ عَلَى الْغِرَّةِ حَيْثُ لاَ إِقَالَةَ وَ لاَ رَجْعَةَ كَيْفَ نَزَلَ بِهِمْ مَا كَانُوا يَجْهَلُونَ، وَجَاءَهُمْ مِنْ فِرَاقِ الدُّنْيَا مَا كَانُوا يَأْمَنُونَ، وَقَدِمُوا مِنَ الْآخِرَةِ عَلَى مَا كَانُوا يُوعَدُونَ.
فَغَيْرُ مَوْصُوفٍ مَا نَزَلَ بِهِمْ، اجْتَمَعَتْ عَلَيْهِمْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ وَ حَسْرَةُ الْفَوْتِ، فَفَتَرَتْ لَهَا اءَطْرَافُهُمْ، وَ تَغَيَّرَتْ لَهَا اءَلْوَانُهُمْ، ثُمَّ ازْدَادَ الْمَوْتُ فِيهِمْ وُلُوجا فَحِيلَ بَيْنَ اءَحَدِهِمْ وَ بَيْنَ مَنْطِقِهِ، وَ إِنَّهُ لَبَيْنَ اءَهْلِهِ يَنْظُرُ بِبَصَرِهِ، وَ يَسْمَعُ بِأُذُنِهِ عَلَى صِحَّةٍ مِنْ عَقْلِهِ وَ بَقَاءٍ مِنْ لُبِّهِ يُفَكِّرُ فِيمَ اءَفْنَى عُمُرَهُ، وَ فِيمَ اءَذْهَبَ دَهْرَهُ، وَ يَتَذَكَّرُ اءَمْوَالاً جَمَعَهَا، اءَغْمَضَ فِي مَطَالِبِهَا، وَ اءَخَذَهَا مِنْ مُصَرَّحَاتِهَا وَ مُشْتَبِهَاتِهَا، قَدْ لَزِمَتْهُ تَبِعَاتُ جَمْعِهَا، وَ اءَشْرَفَ عَلَى فِرَاقِهَا، تَبْقَى لِمَنْ وَرَاءَهُ يَنْعَمُونَ فِيهَا، وَ يَتَمَتَّعُونَ بِهَا، فَيَكُونُ الْمَهْنَأُ لِغَيْرِهِ، وَ الْعِبْءُ عَلَى ظَهْرِهِ.
وَ الْمَرْءُ قَدْ غَلِقَتْ رُهُونُهُ بِهَا، فَهُوَ يَعَضُّ يَدَهُ نَدَامَةً عَلَى مَا اءَصْحَرَ لَهُ عِنْدَ الْمَوْتِ مِنْ اءَمْرِهِ، وَ يَزْهَدُ فِيمَا كَانَ يَرْغَبُ فِيهِ اءَيَّامَ عُمُرِهِ، وَ يَتَمَنَّى اءَنَّ الَّذِي كَانَ يَغْبِطُهُ بِهَا وَ يَحْسُدُهُ عَلَيْهَا قَدْ حَازَهَا دُونَهُ.
فَلَمْ يَزَلِ الْمَوْتُ يُبَالِغُ فِي جَسَدِهِ حَتَّى خَالَطَ لِسَانُهُ سَمْعَهُ، فَصَارَ بَيْنَ اءَهْلِهِ لاَ يَنْطِقُ بِلِسَانِهِ، وَ لاَ يَسْمَعُ بِسَمْعِهِ، يُرَدِّدُ طَرْفَهُ بِالنَّظَرِ فِي وُجُوهِهِمْ، يَرَى حَرَكَاتِ اءَلْسِنَتِهِمْ، وَ لاَ يَسْمَعُ رَجْعَ كَلاَمِهِمْ، ثُمَّ ازْدَادَ الْمَوْتُ الْتِيَاطا بِهِ، فَقُبِضَ بَصَرُهُ كَمَا قُبِضَ سَمْعُهُ، وَ خَرَجَتِ الرُّوحُ مِنْ جَسَدِهِ، فَصَارَ جِيفَةً بَيْنَ اءَهْلِهِ، قَدْ اءَوْحَشُوا مِنْ جَانِبِهِ وَ تَبَاعَدُوا مِنْ قُرْبِهِ، لاَ يُسْعِدُ بَاكِيا، وَ لاَ يُجِيبُ دَاعِيا.
ثُمَّ حَمَلُوهُ إِلَى مَخَطِّ فِي الْاءَرْضِ فَاءَسْلَمُوهُ فِيهِ إِلَى عَمَلِهِ، وَ انْقَطَعُوا عَنْ زَوْرَتِهِ، القيامة حَتَّى إِذَا بَلَغَ الْكِتَابُ اءَجَلَهُ وَ الْاءَمْرُ مَقَادِيرَهُ، وَ اءُلْحِقَ آخِرُ الْخَلْقِ بِاءَوَّلِهِ، وَ جَاءَ مِنْ اءَمْرِ اللَّهِ مَا يُرِيدُهُ، مِنْ تَجْدِيدِ خَلْقِهِ، اءَمَادَ السَّمَاءَ وَ فَطَرَهَا، وَ اءَرَجَّ الْاءَرْضَ وَ اءَرْجَفَهَا، وَ قَلَعَ جِبَالَهَا وَ نَسَفَهَا، وَدَكَّ بَعْضُهَا بَعْضا مِنْ هَيْبَةِ جَلاَلَتِهِ، وَ مَخُوفِ سَطْوَتِهِ، وَ اءَخْرَجَ مَنْ فِيهَا فَجَدَّدَهُمْ بَعْدَ إِخْلاَقِهِمْ، وَ جَمَعَهُمْ بَعْدَ تَفَرُّقِهِمْ.
ثُمَّ مَيَّزَهُمْ لِمَا يُرِيدُهُ مِنْ مَسْاءَلَتِهِمْ عَنْ خَفَايَا الْاءَعْمَالِ وَ خَبَايَا الْاءَفْعَالِ، وَ جَعَلَهُمْ فَرِيقَيْنِ، اءَنْعَمَ عَلَى هَؤُلاَءِ، وَ انْتَقَمَ مِنْ هَؤُلاَءِ.
فَاءَمَّا اءَهْلُ الطَّاعَةِ فَاءَثَابَهُمْ بِجِوَارِهِ، وَ خَلَّدَهُمْ فِي دَارِهِ، حَيْثُ لاَ يَظْعَنُ النُّزَّالُ، وَ لاَ يَتَغَيَّرُ لَهُمُ الْحَالُ، وَ لاَ تَنُوبُهُمُ اپلْاءَفْزَاعُ، وَ لاَ تَنَالُهُمُ الْاءَسْقَامُ، وَ لاَ تَعْرِضُ لَهُمُ الْاءَخْطَارُ، وَ لاَ تُشْخِصُهُمُ الْاءَسْفَارُ.
وَ اءَمَّا اءَهْلُ الْمَعْصِيَةِ فَاءَنْزَلَهُمْ شَرَّ دَارٍ، وَ غَلَّ الْاءَيْدِيَ إِلَى الْاءَعْنَاقِ، وَ قَرَنَ النَّوَاصِيَ بِالْاءَقْدَامِ، وَ اءَلْبَسَهُمْ سَرَابِيلَ الْقَطِرَانِ، وَ مُقَطَّعَاتِ النِّيرَانِ، فِي عَذَابٍ قَدِ اشْتَدَّ حَرُّهُ، وَ بَابٍ قَدْ اءُطْبِقَ عَلَى اءَهْلِهِ، فِي نَارٍ لَهَا كَلَبٌ وَ لَجَبٌ وَ لَهَبٌ سَاطِعٌ، وَ قَصِيفٌ هَائِلٌ، لاَ يَظْعَنُ مُقِيمُهَا، وَ لاَ يُفَادَى اءَسِيرُهَا، وَ لاَ تُفْصَمُ كُبُولُهَا، لاَ مُدَّةَ لِلدَّارِ فَتَفْنَى ، وَ لاَ اءَجَلَ لِلْقَوْمِ فَيُقْضَى .
مِنْهَا فِي ذِكْرِ النَّبِيِّ ص :
قَدْ حَقَّرَ الدُّنْيَا وَ صَغَّرَهَا، وَ اءَهْوَنَ بِهَا وَ هَوَّنَهَا، وَ عَلِمَ اءَنَّ اللَّهَ زَوَاهَا عَنْهُ اخْتِيَارا، وَ بَسَطَهَا لِغَيْرِهِ احْتِقَارا، فَاءَعْرَضَ عَنِ الدُّنْيَا بِقَلْبِهِ، وَ اءَمَاتَ ذِكْرَهَا عَنْ نَفْسِهِ، وَ اءَحَبَّ اءَنْ تَغِيبَ زِينَتُهَا عَنْ عَيْنِهِ لِكَيْلاَ يَتَّخِذَ مِنْهَا رِيَاشا، اءَوْ يَرْجُوَ فِيهَا مَقَاما، بَلَّغَ عَنْ رَبِّهِ مُعْذِرا، وَ نَصَحَ لاُِمَّتِهِ مُنْذِرا، وَ دَعَا إِلَى الْجَنَّةِ مُبَشِّرا.
نَحْنُ شَجَرَةُ النُّبُوَّةِ وَ مَحَطُّ الرِّسَالَةِ، وَ مُخْتَلَفُ الْمَلاَئِكَةِ، وَ مَعَادِنُ الْعِلْمِ، وَ يَنَابِيعُ الْحُكْمِ، نَاصِرُنَا وَ مُحِبُّنَا يَنْتَظِرُ الرَّحْمَةَ، وَ عَدُوُّنَا وَ مُبْغِضُنَا يَنْتَظِرُ السَّطْوَةَ.